معركة الحقوق

TT

يطل علينا غدا موعد الاعلان العالمي لحقوق الانسان 1948/12/10 وقلة منا تناطح، وتتنطع وتسأل أين الحقوق في اوطان لا تطلب فيها الدولة والمجتمع غير الواجبات، وعليه لا اعرف لماذا لا يغيرون اسماء كليات الحقوق في بلادنا ويسمونها كليات الواجبات ويرتاحون، ويريحون.

اما لماذا لا تسأل الاغلبية عن حقوقها وتكاد نظريا وعمليا لا تحس بغيابها، فجواب ذلك عند المفكر الدكتور فؤاد زكريا في كتاب قديم له اسمه «الصحوة الاسلامية في ميزان العقل». وميزة ذلك الجواب انه أتى قبل ان تتحول حقوق الانسان في العالم العربي الى «موضة» وجمعيات، وأكاد اقول «بزنس» يدر على اصحابه ربحا طيبا تماما كالدكاكين النضالية في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي.

يقول الدكتور فؤاد زكريا في فصل معنون باسم «الأسس الفلسفية لحقوق الانسان في العالم الاسلامي المعاصر»:

«... والأخطر من ذلك ان الخضوع المستمر للقمع قد افقد الانسان العادي الاحساس بحقوقه، فبالتدريج اخذ انتهاك الحق القانوني يصبح شيئا طبيعيا، واخذ الناس ينظرون الى هذه التصرفات على انها جزء من طبيعة الاشياء، وبالتالي اخذت تقل قدرتهم على المطالبة بحقوقهم، وهذا اكبر خطر يمكن ان يتعرض له مجتمع في مجال حقوق الانسان».

الهزيمة داخلية اذن، وما لا نعرفه او نجربه غير موجود، ولا نحس بغيابه، فالطغيان العربي كان اذكى من جميع المشرعين والقانونيين الاذكياء في معركة الحقوق، ذلك حين حجب في حقب التعتيم الاعلامي قبل «ثورة الانترنت» كل ذلك الخير العميم الذي ترتع فيه البشرية لدرجة اننا لم نجعل من حقوق الانسان قضية نضالية مستقلة الا في تسعينات القرن العشرين او قبل ذلك ببضع سنين، وذاك تاريخ تأسيس المنظمة العربية لحقوق الانسان التي لم تجد دولة عربية تستضيفها عند تأسيسها فاستقرت عند القبارصة لتقود من هناك معركة الحقوق الضائعة والمضيعة.

والاعتراض الوحيد على النص المحزن للدكتور فؤاد زكريا حكاية فقدان الحقوق بالتدريج، فهناك اقطار عربية، فقدتها بالضربة القاضية كسورية مثلا التي كان عندها بعد الاستقلال في الاربعينات برلمان منتخب وصحافة حرة، وحقوق سياسية وانسانية معتبرة وفجأة افاقت على الانقلابات والرقيب وقوانين الطوارئ، وصارت كل مطالبة بالحقوق الاساسية تآمرا على الوحدة الداخلية، وخدمة لاعداء الخارج، والامر ذاته حدث في العراق مع ثورة تموز ـ يوليو المجيدة والى حد ما في مصر، فمناورات الثورة ـ ثورة يوليو ايضا ـ مع محمد نجيب والاحزاب الملكية والدستورية والليبرالية لم تستغرق زمنا طويلا قبل الكشف عن الوجه الحقيقي لطبيعة الحكم الذي وجه اقسى ضربة لمسيرة الحقوق في ما عرف تاريخيا بمذبحة القضاء.

وحتى حين تأسست المنظمة العربية لحقوق الانسان خارج العالم العربي ظلت المنظمة مشكلة، ولم تنجح في التحول الى حل، ومرد ذلك الى جملة أخطاء كان يمكن تجاوزها، فاختيار محمد فايق وزير اعلام عبد الناصر لرئاستها كان خطأ فادحا منذ البداية، خصوصا ان الرجل يتحمل اخلاقيا ومعنويا عبء النظام السياسي الذي خدمه وكان بوقه المجلى ولم يكن سجله في حقوق الانسان مشرفا، فالسجون المصرية كانت مليئة بالحمر والخضر والزرق وكل ألوان الطيف السياسي الذي كان يضرب ويدمى كلما طالب بالمشاركة السياسية.

وكانت هناك محاباة ايضا للممولين والداعمين لتلك المنظمة وهذه مسألة ما تزال قائمة، ولم تجد حلها لأن الذي يدعم العمل الخيري والانساني عندنا لم يتعلم بعد ان دوره يتوقف عند الدفع، وان تدخله في رسم السياسات ورئاسة الوفود و«المنجهة» الاعلامية على حساب عمل انساني، قضية لا تجوز فهو يستثمر افتراضا لاهداف انسانية نبيلة يؤمن بها، وليس تلميعا لشخصه الكريم، او شخصها المصون.

وغدا في الذكرى الرابعة والخمسين للاعلان العالمي عن حقوق الانسان نأمل ان نكون قد نجحنا جزئيا في تجاوز هذه الاشكاليات كلها او بعضها كما نأمل ان نذكر من يصر على النسيان بان في الجامعة العربية لجنة اقليمية عربية دائمة لحقوق الانسان شكلت بموجب القرار 2443 لعام 1968 ثم عقدت مؤتمرا يتيما في ديسمبر (كانون الاول) من العام نفسه وطواها النسيان كما طوى غيرها من القرارات والقضايا واللجان.

ان انتهاكات حقوق الانسان موجودة في دول العالم كلها لكن السجل العربي في الانتهاكات هو الأسوأ مع السجل الاسرائيلي طبعا، وهذا وضع يلقي على جمعيات حقوق الانسان والجامعة العربية اعباء اضافية وتحديات نأمل ان يكون الجميع على مستواها. اما الذين فقدوا حقوقهم بالتدريج وبالضربة القاضية ولم يحسوا بعد انها غائبة، فهذا وقت صالح لتذكيرهم بحقوقهم السليبة، فذكر ان نفعت الذكرى.