قراءة الأبدان خلال شهر الغفران..

TT

حدثنا المتفرج بن نعسان (النائمي) أنه يفطر في رمضان كأنه يأكل في آخر زاده، وأنه يملأ بطنه باللحم والأرز وما تيسَّر من الطيور، ولا بأس بالسمك، فإذا انتهى من طعامه جاء وقت الحلوى، وانكب صاحبنا على البسبوسة والكنافة والقطايف... فإذا انتهى من طعامه هوت قدرته على الحركة إلى الصفر، وصار يحتاج لمن يحمله حملاً لغسل يديه في الحمام المجاور لغرفة الطعام بعد أن يمسح يديه بفوطة مبلولة تغنيه عن الذهاب إلى صنبور المياه. بعد هذا الإنجاز الرائع يسير صاحبنا فرحاً إلى فراشه ويفتح التلفزيون ويجلس أمامه ويعالج هضم ما يقدمه التلفزيون في الوقت نفسه الذي يعالج فيه هضم الطعام الدسم الذي أكله ساعة الإفطار. (احمد بهجت، الحياة، 9/9/1422هـ).

ويقول راوٍ آخر: «إن ازدياد حالات العنف في الأماكن العامة، مثل الأسواق الشعبية، خلال شهر رمضان، سببه تقلب المزاج الناتج عن ردود الفعل التحسسية والإدمانية تجاه الأطعمة والمنبهات كالشاي والقهوة والسيجار، خاصة عند ضعيفي المقاومة أمام العادات المألوفة!!».

ومن عنوان عريض في نفس المكان يقول الراوي: «عنف بعض الصائمين.. غضب من الجوع أم حرمان من المنبهات؟!»، وعنوان آخر يقول: «توتر وغضب مفاجئان يجعلان حالات بعض الصائمين النفسية كالبندقية المحشوة الجاهزة لإطلاق النار في أية لحظة». وصائم يقول: «حرماني من عادة التدخين يوتر أعصابي ويزيد قلقي». وصائم آخر يقول: «العصبية أثناء الصيام سببها تعرّض الدماغ لحالة اللا تركيز بسبب الجوع!» جريدة «الشرق الأوسط» 18/12/2000.

ويقول راوٍ ثالث: «إن الانغماس في التلذذ بأنواع الأطعمة المختلفة ورواج أسواق الأغذية في شهر الصوم الفضيل من كل عام لإشباع شهوة البطن يحتاج منا إلى وقفة وتساؤل: هل أصبح شهر الصيام شهراً لإشباع شهوة البطن!ـ وهل هذا انعكاسٌ لأمراض النفس وتمكُّن تأصيل الشهوات في النفوس». (د. وليد فتيحي، عكاظ 9/12/1422هـ).

ويقول راوٍ رابع: «يشدني الحنين لبلدي هناك في شمال السودان حيث كنا نبدأ بشم رائحة رمضان منذ دخول رجب عندما تبدأ الاستعدادات لإعداد لوازم المائدة الرمضانية وكان لعابي يسيل عند إعداد النساء للشعيرية، وياما جاهدت كي أبقى صاحياً حتى موعد السحور بمواصلة اللعب في بلد ينام فيه الدجاج في الرابعة مساء والأوادم في السابعة». (جعفر عباس، الوطن 3/9/1421هــ).

ويقول خبر خامس: «تبلغ النسبة التقريبية للطعام الذي تستقبله نفايات البلدية 70 في المائة في شهر رمضان، (في مدينة أبها)، وهذا يعني أن المنزل الواحد يستغرق 30 في المائة من الطعام المعد، والبقية ترمى في براميل النفايات». (الوطن في 4/9/1423هــ).

ويقول راوٍ سادس: «لا بد لاحظت وأنت تتصفح مواقع الإنترنت كيف تتصدّر «شعارات» المناسبات الدينية «الغربية» مواقع الشبكة الشهيرة متزامنة مع هذه المناسبات، ومحتفيةً بها، فتجد على سبيل المثال في عيد الفصح (Easter) أن (بيْض الأعياد» يُشَكِّل اسم محرك البحث Google.com تجد صور «شجرة عيد الميلاد» تتصدّر موقع بوابة ياهو yahoo.com طوال إجازة «الكريسمس»، وكذلك لا بد رأيت مواقع عالميّة تحتفي بمثل هذه المناسبات وغيرها مثل عيد الشكر Thanks giving، وعيد القديسين Halloweenوعيد الحب Valentines day وغيرها. أما المواقع الجماهيرية العربية فلازالت في معظمها تتنافس على تقديم خدمات مثل آخر «نغمات الجوال»، أو أحدث «هلاوس» شعبان عبد الرحيم. وهكذا تبدو مسألة «مراعاة» مشاعر الناس، «واحترام» المناسبات الدينيّة، أمراً محسوماً، لدى القائمين على هذه المواقع، وعند جل «مخططي» المؤسسات الإعلامية «الغربية»، حتى وإن لم يَفرِضُ ذلك «قانونا» مرعيا، أو «دستورا» مكتوبا، رغم «علمانيّة» معظم هذه المجتمعات التي نَصِفُها نحن «بالتحلُّل» من الدين، ونرى أنها «تُعلِي» الرذائل، و«تهبط» بالفضائل باسم (الحرية)، ولكن عذر القوم أنهم يُروِّجون «قِيَماً» يؤمنون بها «ويطبّقونها» ـ حتى وان بدت لنا ضالّة منحرفة ـ بل ولا يتوانون عن نشرها حول العالم، باسم «الخلاص دينيّا» حينا، وباسم «العولمة» اقتصاديا، واجتماعيا، وسياسيا، في كل حين»، ولكن «المخجل» عربيًّا ونحن بين يدي شهر القرآن ـ الذي لا يَحسُن فيه إلا الاستكثار من الخير ـ هو ما نراه لإعلانات لبرامج قد أعدتها الفضائيات العربيّة تستقبل بها الشهر الفضيل». د. فايز الشهري، الرياض في 8/9/1423هـ.

بعد كل هذه النقولات والمعطيات وغيرها كثير، يأتي شهر رمضان ليبدأ السباق بين الإذاعات والفضائيات لإنجاز ركامٍ ضخمٍ من المسلسلات والفوازير والمسابقات والمسرحيات المثير منها، وغير المثير، حتى تتكسَّر المسلسلاتُ على المسلسلات والمسابقاتُ على المسابقات، ويترامى المشاهدون على المشاهدين والمشاهدات..

وتسأل لماذا كل هذا الإنتاج الهائل؟! يقال لك: إنه بمناسبة الشهر الفضيل، ويا للغرابة على قدرِ فضلِ الوقتِ تأتي الفضائلُ!! والأغرب أن نجد الممثل الواحد في الليلة يقوم بعدة أدوار، فهو في المسلسلة الأولى شحاذ، وفي الثانية مجرم، وفي الثالثة موظف يمارس السرقة، وفي الرابعة رئيس متسلّط.. وهذا الممثل في كل أدواره يجعل المشاهد المتفرج بن نعسان يعيش في حيرة، ويسكنه التناقض حتى يدركه التعب فيذهب إلى النوم لتضيع عليه صلاة العشاء!!

كل النقولات السابقة تقول شيئاً مهماً، مفاده: أن الإنسان أياً كان دينه ولونه ومذهبه ولغته، شغوفاً بجسده، وكل ما نراه اليوم من إجلال للجسد، ما هو إلا ترجمة واسعة لهوس عتيق، وميل إنساني عميق، لم يجد فرصة للإفصاح عن توتراته إلا بعد أن توفرت الأدوات العصرية الراهنة، وكل من يرفض هذه الحقائق يكون كمن يكذب شروق الشمس، لأنها لم تشرق من قريته ـ كما هو تعبير المفكر مطاع صفدي ـ من كل هذه المعطيات السابقة يمكن أن نصفَ روحانية رمضان بعدة مستويات:

مستوى التعامل: توتر وغضب وعنف عند معظم الصائمين ومن يلقي نظرة على سوبيا الخشة * يدرك ذلك حين تتدخل ـ أحياناً ـ دوريات الأمن في ترتيب صفوف الزبائن!!

مستوى الغذاء: أكل وشرب وامتلاء للبطون وممارسة التهام الأطعمة المختلفة اللون والرائحة والطعم.. وتهشيم المكسرات والحلويات.. والحلا يدفع البلا!!

مستوى الفضاء: حشد هائل من المسابقات والمسلسلات والفوازير والتمثيليات، منشدين رمضان جانا وافرحنا به، بعد غيابه، أهلاً رمضان!!

لا أحد يستطيع أن يزعم غير ذلك، لا أحد يستطيع إيضاح أثر شهر رمضان، شهر الغفران، شهر إنزال القرآن، بغير هذه المظاهر الرديئة.. وإن كان من شكر فهو يوجه إلى التكنولوجيا الحديثة والأقمار الاصطناعية التي جعلت إخفاء الكذب صعباً، إن لم يكن مستحيلاً، فالمجتمع في نهاية أمره ليس جمعيةً تعاونيةً كما يحكم بذلك الفلاسفة، ولا هو أخوةٌ ومحبةٌ كما يريده الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولا هو شركة تعاقدية كما يريده جان جاك روسو، ولا هو ذلك المجتمع الفاضل الذي يدعو إليه أفلاطون في مدينته الفاضلة، ولا هو النخبة التي تبحث عن الغاية النبيلة كما يزعم فلاسفة التاريخ، إنه ليس كل ذلك! إن المجتمع في نهاية أمره هو هذا الذي نشهده ونعيشه ونعانيه ونجرّبه وننشغل له ونكابد به، إنه ما يظهر علينا في كل الخطوط والمستويات والعلاقات والوجود، والحركات التي تميل إلى الفجور قبل التقوى، مصداقاً لقوله تعالى في سورة الشمس: «وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَألْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا».

إننا أمام مفاهيم ومقولات كاذبة تحتال علينا وتغدر بنا، وتراوغ فينا مفاهيم مثل مفهوم روحانية رمضان، وغني عن القول أن للوقت قدسيته، وللزمان فرادته، وللَّحظة عظمتها، لكن هل أدرك قومي هذا؟ هل استحضرنا عظمة رمضان؟! وتمثلنا هيبته؟! ليس من عادتي إعطاء الأجوبة، لأن هذه مهمة القارئ والباحث!! دوري يقف عند تخومِ إعطاء المعلومة، وإشعال السؤال والدعوة إلى التفكيك!! إنها دعوة إلى ممارسة الفعل بدلاً من ارتداء شعاره، ودعوة إلى تشرّب قيمة رمضان دون التغني بروحانيته في العبارات والمقابلات والتهنئات والتبريكات!!

سلوك البشر يميل إلى العنف والشر بشكل عام، ولم يأت الإسلام إلا لترويض هذه النفس البشرية والتقليل من تماديها.. أما ما يخص رمضان، فلم أشك في لحظة من اللحظات بأن الصراع والعنف عند بعض الصائمين لن يتقلص أو يخبو في رمضان، بل يزيد في هذا الشهر الفضيل، وشاهدي في ذلك مجموعة مختارة من أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، وإليك بعضاً منها: «رُبَّ صَائِمٌ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إلاَّ الجَوْعُ وَالعَطَشُ»، إنه توجيه نبوي كريم على خسران بعض الصائمين، وإهدار ممارستهم للعبادة، لأنها جاءت خالية من الروحانية، ومشفوعة بالمخالفات والتجاوزات.. وفي حديث آخر يقول سيد الخلق عليه الصلاة والسلام: «إذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمُ أحَدكُمْ، فَلاَ يَرْفثُ وَلاَ يَصْخبُ، فَإنْ سَابَّهُ أحَدٌ أوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ: إنِّي صَائِمْ»، وهذا تنبيه آخر بأن الصائم مستعد للرفث والصخب، والصائم الآخر متحفز للسب والقتل، والتوجيه النبوي الكريم يدعو إلى الابتعاد عن هذه التي تنافي الروحانية. وفي حديث آخر يقول خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام: «نَحْنُ قَوْمٌ لاَ نَأكُلُ حَتَّى نَجُوعُ وَإذَا أكَلْنَا لاَ نَشْبَعْ» وفي حديث رابع: «صُومُوا تَصِحُّوا، والصِّيَامُ جُنَّةٌ. وفي حديث خامس: مَا مَلأ ابْنُ آدَمَ وِعَاءً شَراًّ مِنْ بَطْنِهِ، بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ لُقَيْمَاتٍ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإنْ كَانَ لا بُدَّ فَاعِلاً، فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ، وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ، وَثُلُثٌ لِنَفسِهِ، وَهَذَا تَوْجِيهٌ إلَى كَبْحِ جِمَاحِ شَهْوَةِ الطَّعَامِ وَالشَّرَاب»!

وبمناسبة الروحانية من جانب، واتهام الغرب بالمادية والجسد من جانب آخر، صدر قبل أيام عن دار الريس في بيروت كتابٌ بعنوان فخ الجسد للمؤلفة منى فياض، وكل الكتاب إجابة على السؤال التالي: لماذا ينساق العربي وراء تقليعات الجسد ويدّعي الروحانية؟! لماذا يلهث خلف كافة مظاهر العناية بالجسد وتدليله إذا كان روحانياً ومشمئزاً مما يسميه القيم المادية؟!

بقي في الختام أن أذكّر أن لرمضان عظمةً حتى وإن نسي الناسُ ذلك، ورغم كل الممارسات إلا أن الأمل باقٍ بأن يُراجعَ الصائمون النظر في مفاهيمهم ليعيدوا إنتاجها مشفوعة بالعمل والتطبيق، فالأمر مهمٌ خطيرٌ لأن «كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لله جل وعز وهو الذي يجزي به»، كما ورد في الحديث القدسي.

* سوبيا الخشة: محل في المدينة المنورة يبيع السوبيا في شهر رمضان، ويزدحم الصائمون للشراء منه في عصاري شهر رمضان المبارك، والسوبيا لمن لا يعرفها هي مشروب يتكون من الشعير والسكر، يُصنع بطريقة خاصة لا يجيدها إلا المختصون.

[email protected]