انظر أمامك بغضب

TT

موجة الغضب تعود الى الفن الاوروبي وكأنها لم تغادر المسرح، فغياب حقبتين او ثلاث حقب لا يكفي لتشعر بانها صارت بعيدة، ولماذا تصير بعيدة اصلاً؟ وفي الكون من محرضات الغضب والقهر ما يكفي لتفجير كافة النفوس الحساسة، اما اصحاب جلود التماسيح فلا شيء يتغير عليهم مهما تقلب بأهله الزمان ومهما تغيرت وتبدلت الامكنة.

ان حقبة «انظر الى الخلف بغضب» لجون اوزبورن تعود الى «المسرح والسينما والاعمال الادبية والفنية الاخرى بكثافة ليس لها مثيل، ففي الصالات السينمائية هذا الاسبوع فيلمان يقطران غضباً مركزاً هما «AKA» و «Saturday night and Sunday morning». والاول عن شباب الحقبة التاتشرية اما الثاني فعن الموجة الجديدة للشباب البريطاني الغاضب لعشرات الاسباب التي تمتد من ضياع الفرص الى البطالة الى فقدان الحب الحقيقي، ولولا الحنين والمسحة الرومانسية لفيلم كين لوش الجديد «Sweet Sixteen» لجاز ادراجه في هذه الموجة الفنية التي تنظر بغضب الى الامام والخلف والجانبين، وتكاد تزأر في وجه الجهات الاربع.

وفي المسرح عندك غير مسرحية «فنسنت في بريكستون» مسرحية «المرأة التي طبخت زوجها»، والغضب في هاتين المسرحيتين مخلوط بالكوميديا، وهذا لا يقلل من آثاره بل يزيدها، فالكوميديا الغاضبة السوداء تبعد الحدث عن الكآبة والاحباط الذاتيين باتجاه تجاوز الواقع بالضحك عليه، فالانتحار ليس حلاً كما فعل «فان كوخ» طالما ان الانسان يمتلك طاقة المقاومة ويستطيع تحويل غضبه في مساقات محترمة تغير شكل المستقبل.

ولا تسأل من اين يأتي كل هذا الغضب للفن حتى لا تبدو ساذجاً، فالغربيون ليس عندهم قضايا على غرار العراق وكشمير وفلسطين لتنغص وجودهم اليومي لكن عندهم مقابلها هوامش ديمقراطية تتبخر امامهم باستمرار وهم يتفرجون، وعندهم رأسمالية شرسة متوحشة لا تتركهم يموتون جوعا، ولا تمنحهم الفرص بالتساوي، وعندهم وهذا تكرار لحقبة جون اوزبورن جيل سياسي لم يستوعب القفزة النوعية للعولمة ولما بعد الحداثة ويريد ان يواصل حكمهم بقوانين الحرب الباردة، وتقاليد الاجداد.

وفي حقب الغضب تعود ظاهرة اللامنتمي لتستشري فعندهم هذه الايام من كولن ويلسون العشرات من الكتاب والكاتبات الذين واللواتي يبحثون عن هوية حقيقية تعوض الهوية الوطنية الضائعة، ومن هذا الرعيل هيلاري مانتل التي تتحدث في كتبها عن جيل لم يعد يعرف نفسه من كثرة ما اصاب الهوية الاصلية من تبدلات وتطورات وتشوهات اساسية وهامشية.

والفن الغاضب من اصعب الحقب على الفنانين لكنه من اخصب الازمنة للفن فجيل الغضب الروسي في القرن الماضي وما قبله منح للبشرية عبقريات من وزن تشيخوف وديستويفسكي وجيل الغضب الفرنسي الاول انتج فولتير وروسو والثاني ثورة الطلاب وفي العالم العربي كان اديب اسحاق وجيله طلائع الغضب التي مهدت للثورة العربية الكبرى التي صارت حتمية بعدما ان وصلت الاحوال المتناقضة الى ما وصفه ذلك الشاعر الكبير في اشهر بيتين قالتهما العرب:

قتل امرئ في غابة

جريمة لا تغتفر

وقتل شعب كامل

مسألة فيها نظر

والعالم العربي المعاصر ليس بعيداً عن موجة الغضب العالمية فهو يتلقى أقساها، وأشدها احراقاً، فبالاضافة الى مشاكل البطالة وضياع الشباب في دهاليز الكبت تشهد كافة الاجيال العربية عودة الاستعمار التقليدي المباشر بعد ان استنفد «الاستعمار السري» اغراضه ولم يعد يكفي لتسيير الامور والحفاظ على المصالح في منطقة ملتهبة بالغيظ ومكتنزة بالثروات الدفينة.

ولا نستطيع الزعم ان الغضب العربي الساطع لا ينتج فنا وأدباً فالحناجر محبوسة، والافواه مكممة، وعلى كل قلم حارس وغفير. كل هذا صحيح لكن الاصح ان الغضب كالبركان لا يمكن حبسه حين يحين اوان تفجر حممه، وقريباً سنشهد في العالم العربي موجة رهيبة من الغضب ليس في الفن وحده بل في كافة مناحي حياة اوصلها القمع والاستبداد الى طريق مسدود، وأوقفها امام خيارين اما ان تتغير، او تتفجر، ولن تتغير الا بعد ان تتفجر، فتلك طبيعة البراكين الحجرية منها، والبشرية.