سبيل نار

TT

السبيلخانة، من الاعمال الخيرية الشائعة في عالمنا العربي والاسلامي. تشرب الماء البارد منها في ايام الصيف الحار وتترحم على من سبل السبيل. ولكن هذا عمل لا ينفع في ربوع اوروبا الشمالية، حيث تمطر السماء ماء وثلجاً طوال اليوم ويلغي البرد القارس حاجة الناس للماء. ولكن عمل الخير شيء غريزي في أهل الخير. وسكان الدانمرك الذين آووا عشرات الألوف من اللاجئين العراقيين والعرب عموما من أهل الخير. فما عساهم يفعلون لينالوا مرضاة الله. في هذه البلاد التي تنخفض فيها درجة الحرارة الى30 تحت الصفر، عمدوا الى وضع منقلات على الرصيف يقف المار عندها ويدفئ يديه وجسمه ثم يواصل سيره. لا تخمد نارها حتى يسرع صاحبها الى اضافة فحم جديد. انها سبيلخانة النار. انها التصدق بالدفء.

هكذا دفأت يدي في كوبنهاجن وترحمت على كل من سبل هذا السبيل. ولكن الدفء مشى فصعد الى دماغي وحركني الى التفكير. ذكرني بالطريقة التي قام بها هذا الشعب بالاصلاح الزراعي في القرن الثامن عشر. في معظم جهات العالم اضطرت الشعوب الى الثورة والتمرد، القتل وسفك الدماء للقضاء على الاقطاع وتوزيع الاراضي على الفلاحين. ولكنهم في الدانمرك، اجتمع امراء الاقطاع ورأوا ان نظامهم هذا غير عادل ولا معقول فقرروا فيما بينهم توزيع الاراضي على المزارعين. هكذا تم الاصلاح الزراعي هناك بكل هدوء وشعور بالانسانية.

كانت الدانمرك كغيرها من الدول المتحضرة تحكم بصورة ديمقراطية برلمانية، ولكن حق التصويت كان محصوراً بفئة المالكين. التفتوا مرة أخرى الى التعسف الذي انطوى عليه ذلك. اجتمعوا في اوائل القرن الماضي وقرروا اعطاء حق التصويت للجميع. وهو ما لم يتم حتى في بريطانيا، حيث جرت معارك دامية في الشوارع قبل الحصول على هذا الحق المطلق.

نال جميع الدانمركيين والدانمركيات حق التصويت. ولكن رجلاً مفكراً لاحظ ما سبق وان اشرت اليه في مقالة سابقة. وهو ان حق التصويت للأميين يشوه الديمقراطية. لا بد من حد أدنى من التعليم لتستطيع التصويت بوعي وفهم. لاحظ المحسن غرندفك ان العمل الزراعي يحول دون التحاق الاولاد بالمدارس، وبالتالي وجود ناخبين اميين فتطوع لفتح ما سمي بالمدارس الشعبية لتعليم الاولاد مساء بعد انتهاء عملهم.

اعترافا بهذا العمل الجليل من غرندفك قرر الجمهور بناء كنيسة كاتدرائية ضخمة باسمه تخليدا له، تبرع مهندس معماري بتصميمها وتبرع ستة بنائين بتكريس 19 سنة من حياتهم لتشييدها بايديهم. زرت هذه الكنيسة فوجدتها من اروع ما شاهدت من الكنائس الحديثة.

يشكو الجمهور في بريطانيا من دفع 25 % ضريبة دخل. في الدانمرك يدفعون 52 % من دخلهم ولا يتذمر أحد منها. يذهب جزء كبير من هذا الدخل للانفاق على اللاجئين من العالم الثالث.

تأملت في هذا الشعب المفطور على حب الخير والالتزام الاجتماعي ثم تذكرت ان هذا الشعب كان قبل الف سنة من اشرس الشعوب، يعيث فسادا في اوروبا، ينهبون ويحرقون ويغتصبون النساء ويذبحونهن ويصنعون من جماجمهن أواني يأكلون منها. انه مثال رائع على قدرة البشر على التطور. تأملت في ذلك وقلت ما الداعي لتشاؤمنا عن احوالنا في عالمنا العربي؟

اذا كان بامكان الدانمركيين ان يخرجوا من تلك البربرية الى هذه الذروة في المرتبة، فلا شك ان بامكاننا ان نحقق نفس التطور والارتقاء. كل ما في الأمر ان علينا ان ننتظر الف سنة.