«ممباسا» حلقة في السلسلة ذاتها!!

TT

كأنه لا ينقص الفلسطينيين إلا ان يجري في «ممباسا»، في كينيا، ما جرى حتى يتبدد باقي ما تبقى من التعاطف معهم وحتى يصبحوا، في أعين العالم، هم واسامة بن لادن «وقاعدته» وجهين لعملة واحدة وحتى تتعزز «مصداقية» شارون بالقول ان اسرائيل هي المستهدف الاول وان كل المعادين للارهاب في الكرة الارضية يجب ان ينضموا اليها.

هذا ما كان ينتظره شارون وما كان يسعى اليه فأمنيته، «العزيزة على قلبه» ألا يبقى ارهاب اسامة بن لادن «وقاعدته» يستهدف الولايات المتحدة وحدها وان تتسع هذه الدائرة الجهنمية والشيطانية لتشمل الدولة العبرية، وليستهدف اليهود خارج فلسطين فلقد كان شعاره وما يزال ان الاسرائيليين والاميركيين في خندق واحد وان الخندق الآخر المقابل هو خندق اسامة بن لادن والفلسطينيين والعرب كلهم.

لم يبق على القضية الفلسطينية الا ان تصبح مطية لاسامة بن لادن بعد ان كانت بمثابة «قميص عثمان» لكل الانقلابات العسكرية العربية وكل المغامرين والانتهازيين والمزايدين والمقاولين وبعد ان لم يبق ارزقي الا وركب امواجها ولم تبق فضائية أو صحيفة مشبوهة الا وتغطت وتلطت بها.

بالطبع سيقول الذين يخوضون الكفاح المسلح وحرب التحرير الشعبية، من المرابع والعواصم البعيدة التي يلفها الضباب: ما لنا وما للعالم وسلمت ايدي الذين ضربوا في «ممباسا» طالما ان كل ما يجري في فلسطين يجري والعالم صامت لا يحرك ساكنا.. والحقيقة ان هذا ما يريده اليمين الاسرائيلي بالضبط، ولعل ما لا يعرفه الذين لا يعرفون من النضال من اجل الفلسطينيين سوى اجتياح شاشات الفضائيات وسوى الصخب والارغاء والازباد عن بعد ان اليهود الاكثر تشددا يؤمنون بشيء اسمه: «الذبيحة من أجل الرب» اي ان لا مانع لديهم من ان تسيل دماء المزيد من اليهود من أجل ما يسمونه تحقيق الوعد الإلهي.. وبالطبع فإن الواحد الأوحد بريء منهم ومن وعودهم التي يؤمنون بها والتي لديهم استعداد لفعل ما لا يفعل من أجل تحقيقها.

هناك من قال ولا يزال يقول وقد برروا ما قالوه بحشد استشهادات ووقائع كثيرة بأن ايدي واصابع بعض المتطرفين من رواد الحركة الصهيونية الاوائل لم تكن بعيدة عن افتعال المذابح الشهيرة المستنكرة ليهود ابرياء عشية الحرب العالمية الثانية وخلالها وان هؤلاء فعلوا ما فعلوه تنفيذا لتعليم «الذبيحة من أجل الرب» وعلى اساس ان الغاية تبرر الوسيلة وانه لا مانع من التضحية بأعداد من اليهود اذا كان هذا يحقق ما يسمى بالوعد الالهي بعودة ما تبقى من اليهود الى فلسطين!!

المثل يقول عدو عاقل خير من صديق جاهل، هذا اذا كان الذين ضربوا في «ممباسا» وحاولوا اسقاط طائرة مدنية اسرائيلية، بركابها من المدنيين، اصدقاء للشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية بالفعل واذا كانوا قد قاموا بما قاموا به بحسن نوايا وغيرة على القدس وفلسطين وثأرا لما يقوم به شارون وجيشه ضد الاطفال الابرياء والشعب الاعزل.

لم يواجه كفاح الشعب الفلسطيني مأزقا كالمأزق الذي وضعه فيه اسامة بن لادن من خلال ما جرى في الحادي عشر من سبتمبر (ايلول) عام 2001 فهذه الجريمة التي حسبت زورا وبهتانا على فلسطين والقضية الفلسطينية جاءت في لحظة تاريخية ودقيقة وحاسمة، ويقينا لو ان ما جرى لم يجر لما تجرأ الاميركيون على اتخاذ هذا الموقف المخزي الذي يتخذونه ازاء ما يتعرض له الفلسطينيون من مجازر منهجية لم تعد هناك حاجة الى المزيد من البراهين لاثبات ان هدفها ليس الدفاع عن النفس كما يقول شارون وزبانيته وانما اقتلاع شعب من ارضه ووطن اجداده والقائه خلف الحدود.

والغريب انه بينما بدأ العالم يدرك ان لا علاقة للفلسطينيين باسامة بن لادن ولا علاقة للقاعدة والملا عمر وطالبان بالقضية الفلسطينية، تأتي هذه العملية، التي اقل ما يمكن ان يقال بها وعنها انها مشبوهة، لتصب الحَبَّ في طاحونة شارون ولتعطي لكلامه مصداقية عندما يقول ان اسرائيل هي المستهدف وان العالم الحر يجب ان ينضم اليها لمواجهة الارهاب العربي والفلسطيني.

ان ما جرى في «ممباسا» ليس له علاقة لا بالانتفاضة ولا بفلسطين ولا بالقضية الفلسطينية حتى وان «زغرد» له فرسان الجمل الثورية وألهبوا اكفهم تصفيقا للمجهولين الذين نفذوه، والذين هناك اجماع على انهم ينتمون لاسامة بن لادن و«قاعدته»، فالانتفاضة كحركة شعبية ومقاومة سلمية على طريقة غاندي انتهت منذ ان تحولت الى مواجهة عسكرية والى عنف مسلح وعمليات انتحارية.

فمنذ البداية، حتى قبل الحادي عشر من سبتمبر (ايلول) كان على القيادات الفلسطينية، في السلطة الوطنية وفي كل الفصائل، ان تحمي نضال شعبها ومشروعه الوطني من المتطفلين واصحاب «الاجندات» الخاصة والذين لا مانع عندهم في استشهاد آخر فلسطيني ما دام ان هذا يخدم توجهاتهم وحساباتهم الشخصية. وهنا فإنه لا بد من فهم التصريحات التي أدلى بها أخيرا أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية محمود عباس (أبو مازن) على هذا الاساس وليس على اساس معظم الانتقادات التي وجهت اليه ووجهت الى تصريحاته.

كان ولا يزال محمود عباس صاحب مشروع تحرري واقعي لم يتعارض مع الكفاح المسلح عندما كانت المرحلة مرحلة كفاح مسلح، وهذا المشروع يستند أولا وأخيرا الى انه بالامكان محاصرة التطرف الاسرائيلي بالسلام والى انه بالامكان، باظهار المرونة والمزيد من المرونة، انتزاع احتكار التعاطف العالمي من يد الدولة العبرية واظهارها على حقيقتها كدولة عدوانية مغتصبة ومحتلة مثلها مثل كل الدول المارقة التي تفرض ارادتها على شعوب صغيرة بالسلاح وبالقوة.

والى جانب هذا فإن ابو مازن يرى ان جانبا رئيسيا من النضال الفلسطيني يجب ان ينصب على الجبهة الاسرائيلية المهملة، فهو يرى ان المصلحة الوطنية الفلسطينية تقتضي توسيع وتعزيز تيار السلام في اسرائيل وتقتضي محاصرة التطرف الاسرائيلي بايجاد قاسم مشترك مع هذا التيار الذي استطاع ان يفرض مفاهيمه وتصوراته على الحياة السياسية الاسرائيلية قبل ان يختلط الحابل بالنابل وينهار كل شيء وتصل الامور الى الحالة التي وصلت اليها.

يرى ابو مازن، ويرى كثيرون ما يراه، ان اجتياح اليمين الاسرائيلي للحياة السياسية في اسرائيل واحراز كل هذا التفوق سببه تحول الانتفاضة من حركة جماهيرية ومقاومة سلمية الى مواجهة عسكرية وعمليات انتحارية، ولعل ما زاد الطين بلة، كما يقال، ان الاخطاء «التكتيكية» التي ارتكبت فلسطينيا وعربيا في التعاطي مع احداث الحادي عشر من سبتمبر (ايلول) ادت الى نجاح شارون في سعيه لوضع اسرائيل في صميم الجبهة المستهدفة بالارهاب ووضع الفلسطينيين والعرب عموما في جبهة اسامة بن لادن و«قاعدته» والملا عمر وطالبانه.

ولذلك وعندما يواجه ابو مازن كل هذا الارهاب الفكري، المسلط على كل صاحب وجهة نظر مغايرة وعلى كل صاحب رأي مخالف، بكل هذه الشجاعة ويعلن ما أعلنه ويطالب باستدراك الوضع قبل ان تغرق كل المراكب، فلأنه صاحب تجربة طويلة ولأنه يدرك كم ان الاقتراب من اسامة بن لادن وافعال قاعدته سيكون مدمرا وكم أن تحول الانتفاضة من حركة شعبية الى مواجهة عسكرية عنوانها العمليات الانتحارية قد اضر بالقضية الفلسطينية واضعف البرنامج الوطني الفلسطيني.

لا بد من ان ينأى الفلسطينيون بأنفسهم وبنضالهم وبمشروعهم الوطني عن كل هذا الارهاب الاسود الاهوج سواء كان مصدره اسامة بن لادن او غيره. والآن بما ان المفترض ان تستأنف الحركتان الرئيسيتان في الساحة الفلسطينية، حركة «فتح» وحركة «حماس» مفاوضاتهما «الماراثونية» في القاهرة بعد عيد الفطر مباشرة، فإن المرتجى والمرتقب والمتوقع ان يكون هناك تفاهم على ضرورات ومتطلبات ومعطيات المرحلة المستجدة التي هي فعلا وحقيقة اخطر مراحل القضية الفلسطينية وادقها على الاطلاق.

المعروف ان حركة «حماس» محكومة بعلاقات عربية واقليمية صعبة وانها بحكم علاقاتها بـ «الاخوان المسلمين» مضطرة لمراعاة قرارات وتوجهات القيادة الدولية لهؤلاء، لكن المتوقع والمأمول من حركة تحتل هذه المكانة لدى الشعب الفلسطيني ان تغلب التزامها بالمشروع الوطني الفلسطيني على كل هذه العلاقات الآنفة الذكر، حتى وإن كانت علاقات تنظيمية فالمصلحة الوطنية لشعب تمر قضيته في اصعب وادق مراحلها لها الاولوية على كل هذه الامور الأخرى.

إن ما تريده حركة «فتح» وتؤيده غالبية الشعب الفلسطيني، وفقا لآخر الاستطلاعات التي قام بها المركز الذي يديره بكفاءة واستقلالية الدكتور خليل الشقاقي، هو وقف العمليات الانتحارية أو تجميدها وعدم الانجرار لاستفزازات شارون واليمين الاسرائيلي، وهو ايضا الابتعاد عن اسامة بن لادن وحماية نضال الشعب الفلسطيني من تهمة الارهاب وهذا الضعف الذي يخبط خبط عشواء وآخره ما جرى في «ممباسا» في الفترة الاخيرة.

كل الحركات التاريخية الحية تخضع برامجها «التكتيكية» والاستراتيجية في العادة الى المقتضيات الوطنية لشعوبها، والشعب الفلسطيني بعد تجربة العامين الماضيين بات بحاجة الى مرحلة التقاط انفاس، كما بات بحاجة ماسة جدا الى مراجعة مسيرته في هذين العامين، وعلى رأس كل هذه الانتفاضة التي ما كان يجب ان تتحول من حركة جماهيرية سلمية الى مواجهة عسكرية وفقا للتخطيطات والاستدراجات الاسرائيلية كما ثبت بالأدلة القاطعة.

لا ينفع حركة «حماس» ان هي كسبت تحالفاتها وعلاقاتها مع اطراف عربية وقوى اقليمية بما في ذلك التنظيم الدولي لـ «الاخوان المسلمين» وخسرت البرنامج الوطني لشعبها، فمصلحة الشعب الفلسطيني فوق كل المصالح وبخاصة المصالح التنظيمية. ومن مصلحة الشعب الفلسطيني وقف العمليات الانتحارية حتى ولو استمرت استفزازات شارون، ومن مصلحة الشعب الفلسطيني الابتعاد عن اسامة بن لادن و«قاعدته» وتجريم كل العمليات المدانة والمرفوضة التي يقوم بها حتى وان هو ألبسها عباءة القضية الفلسطينية.