العراق بحاجة لحكومة في حاجة لشعب

TT

في مقال سابق نشر خلال الشهر الماضي اقترحت على المعارضة العراقية بتواضع أن تتخلى عن خطط تشكيل حكومة أو برلمان في المنفى. ويبدو الآن ان تلك النصيحة التي قدمها أيضا آخرون لقيت آذانا صاغية. فالمؤتمرالذي ينتظر أن تعقده جماعات المعارضة العراقية خلال هذا الاسبوع في لندن لن يشهد توزيع مقاعد حكومة في الخيال.

وهنا قد يطرح البعض السؤال التالي: اذاً ماذا سيتم في المؤتمر؟

فالولايات المتحدة التي يعد تدخلها العسكري المحتوم ضد النظام الحالي هو العامل الحيوي في ضمان حدوث تغيير في العراق، بعثت بالفعل برسالة للمشاركين في المؤتمر المذكور تخبرهم بما تريدهم فعله. ويتوجب على الحشد العراقي في لندن أن يمعنوا النظر في الرسالة، وأن يضعوا توصياتها في عين الاعتبار، لكن عليهم أن يتخذوا قراراتهم الخاصة.

وهذا لا علاقة له بمشاعر العداء المزيفة لأميركا التي قد يطلقها البعض، كما يفعل بعض المعارضين العرب. بل ان على العراقيين أن يتخذوا قراراتهم بأنفسهمم لان ادارة بوش منقسمة بشأن مسألة حيوية تتعلق بشكل النظام الذي يجب أن يحل مكان حكم حزب البعث.

إذ يبدو ان وزارة الخارجية الأميركية والى حد ما وكالة المخابرات المركزية، ترغبان في رؤية «نظام ألطف من صدام» في العراق. وهاهما تبحثان أمر قائمة من جنرالات العراق، من المنفيين أو من داخل العراق، كزعماء محتملين للنظام العسكري «اللطيف».

أحد المرشحين المحتملين كان نزار الخزرجي، وهو جنرال سابق يعيش الآن في الدنمارك. لكن الخزرجي بات الآن يخضع للاقامة الجبرية بموجب أمر صادر عن سلطات الدنمارك التي مازالت تبحث أمر دعوى قضائية ضده تتهمه بارتكاب جرائم ضد البشرية. «ويعتقد بعض العراقيين ان أجنحة في اطار الادارة الأميركية ممن تعارض رؤية وزارة الخارجية ووكالة المخابرات، قد تكون وراء مشاكل الخزرجي». مرشح أخر محتمل هو الجنرال السابق نجيب الصالحي.

ويبدو ان وزارة الدفاع الأميركية مدعومة ببعض أعضاء الكونغرس الأشد تصلباً، ما زالت تنظر في أمر فرض حكم عسكري أميركي مباشر خلال المراحل الأولى من عصر ما بعد صدام. وطبقا لما أوردته بعض التقارير فانهم قد اختاروا أيضا حاكم العراق المقبل ممثلا في الجنرال جون أبوزايد، ذي النجوم الثلاث الذي يتحدث العربية بطلاقة ولعب دورا خلال حرب الخليج التي وقعت في عام .1991

وليس سرا ان معظم حلفاء واشنطن من العرب يفضلون على الأرجح الاستعاضة عن صدام حسين بجنرال عراقي سابق بدلا من حاكم عسكري أميركي. فيما تفضل عناصر متنفذة داخل الحزب الجمهوري رؤية حكومة مدنية مؤقتة يتزعمها أحمد الجلبي، وهو مصرفي سابق.

ومن جانبه مايزال مجلس الأمن القومي الأميركي يبحث هذه الآراء المتناقضة. وقد أدى الانقسام الداخلي في أوساط الادارة الأميركية فيما يتعلق بالعراق، بالفعل الى حدوث مشاكل متعلقة بعملية تفتيش الأسلحة. كما صعب على الولايات المتحدة وضع رؤية ثابتة بشأن مستقبل العراق.

مثل هذه الرؤية على أية حال، يجب أن تصدر من مكان ما. واذا ما جاء مؤتمر المعارضة العراقية انعكاسا لانقسامات ادارة بوش، فلن تتوفر فرصة أخرى لوضع رؤية بديلة. وهذا ما قد يجعل لمؤتمر لندن دورا حيويا. اذ يتوجب على المشاركين فيه أن يبدأوا بإلقاء نظرة فاحصة على بعض دروس التاريخ. ومن هذه الدروس ان الاسلوب الوحيد الفعال للتخلي عن ارث الاستبداد هو أن يبتعد المرء عنه بقدر الامكان. ويمكن لنظام عراقي مستقبلي أن ينجح فقط متى ما ابتعد بقدر الامكان عن النظام الحالي.

قد يسأل البعض: ما الذي يعنيه هذا عمليا؟

أولا، انه يعني أن حكام العراق في المستقبل يجب ألا يرتدوا الملابس العسكرية، سواء أكانت حللا عسكرية أصلية أم أزياء مسرحية، كتلك التي يرتديها صدام وحاشيته.

وثانيا، لأن نظام صدام يعتمد من حوله على قاعدة اجتماعية ضيقة للغاية تنتمي لعشيرته من تكريت، فان مستقبل العراق يجب أن يستند على أوسع نطاق ممكن. وبالتأكيد عليه أن يعكس التنوع الثري للأمة العراقية.

ثالثا، لأن نظام صدام يمثل الوجه السياسي لآلة الحرب، فان النظام المستقبلي يجب أن يبتعد عن الشكل العسكري بقدر الامكان. وهذا يعني التخلي عن التجنيد الاجباري والاستعاضة عنه بقوة ذات تدريب عالي المستوى معداتها جيدة، بحيث تكون قادرة على الدفاع عن الأمة ضد العدوان الخارجي، لا أن تكون معدة للتدخل في الشؤون الداخلية.

رابعا، لأن نظام صدام مستند الى عملية صنع قرار فائقة المركزية، لابد أن يقحم النظام المستقبلي كامل الأمة في هذه العملية. وهذا يمكن تحقيقه من خلال نظام اتحادي تمنح فيه صلاحيات موسعة لهيئات الحكم المحلي.

خامسا، لابد من التخلص من نظام الاقتصاد الموجه الذي تسيطر فيه السلطة المركزية على كل موارد الأمة المالية تقريبا. فالأمر بحاجة لبرنامج خصخصة هائل يجب أن يشمل حصة كبيرة من صناعات النفط والغاز.

سادسا، اعتاد نظام صدام على ممارسة اسلوب الانتقام العنيف من خصومه الحقيقيين أو المفتعلين. الأمر الذي يعني ان على النظام الجديد ان يتخلى عن الأفكار المتعلقة بأخذ الثأر. ويجب أن يحكم على الأفراد بدرجة أساسية من خلال مواقفهم اليوم، لا من خلال ما فعلوه بالأمس. وسيكون العراق بحاجة لعفو واسع، يرتبط به تشكيل لجنة مصالحة وتقص للحقيقة. وسيتطلب الأمر تقديم عدد محدود من مشاهير المجرمين للعدالة. فمعظم أعضاء حزب البعث موجودون في مواقعهم نتيجة لحسابات مأساوية، لكنها مفهومة انسانيا، ومتعلقة بفرص العمل. وما ان يتم تفكيك آلة الطغيان وأجهزتها الأمنية السرية، حتى يتسنى اعادة استيعاب معظم البعثيين بالتدريج في الحياة الطبيعية.

وأخيرا، لقد أقام صدام نظاما لا تحتاج فيه الصفوة الحاكمة للشعب العراقي في أي شيء. فالمال الذي يحتاجه صدام لا يأتي من الضرائب بل من صادرات النفط، ومن السوق السوداء ومن عمليات السلب والنهب. كما ان صدام لا يحتاج للشعب لكي ينتخبه. (فهو يستطيع ببساطة إعلان فوزه بنسبة 100 في المائة من الأصوات). كما انه لا يحتاج لجماهير الشعب العراقي لكي يقاتلوا من أجله. ذلك انه يعتمد على قوات من المرتزقة الذين يتزعمهم أنجاله.

يجب أن يكون نظام العراق في المستقبل من النوع الذي يعتمد تماما على الشعب، في نفقاته من خلال أموال الضرائب، وفي أصوات ناخبيه من خلال الانتخابات، وأن يعتمد عليه للدفاع الوطني في حالة العدوان الخارجي.

وهذا هو السبب الذي يحتم اجراء العديد من الانتخابات، تحت اشراف دولي، خلال المراحل الأولى للنظام الجديد: من أجل المصادقة على دستور جديد، ومن أجل انتخاب هيئات محلية وبلدية، وفي ما بعد من أجل انتخاب مجلس نيابي جديد.

بوضوح لايمكن لمؤتمر لندن ادعاء ان المشاركين فيه وحدهم يمكنهم اقامة مثل هذا النظام. اذ يتوجب على قوى داخل البلاد أن تلعب دورا أساسيا.

وقد يتساءل المرء عن كيفية ظهور مثل هذه القوى، خاصة اننا ندرك بشاعة تاريخ النظام الحالي المستبد. لكن علينا ألا نشعر بالدهشة. فهناك بداخل العراق ما يكفي من القوى القادرة على توفير العناصر الرئيسية للنظام الجديد. وكل ما يتطلبه الأمر هو اتاحة المجال لبروزها في المقدمة. ومهمة المنفيين الأساسية هي السعي لاتاحة هذا المجال في أسرع وقت ممكن.