هل ينجح الأتراك الإسلاميون فيما فشل فيه العلمانيون؟

TT

مر على حكومات تركيا السابقة ما يقرب من أربعة عقود وهي تطرق بإلحاح أبواب الاتحاد الأوروبي عسى ان تُفتح لها لتصبح عضوا كاملا في الأسرة الأوروبية.

وجميع الحكومات العلمانية التركية لم تلق من الاتحاد الأوروبي لا ترحيبا بها ولا أذنا صاغية، لأن المجلس الأوروبي المختص في «منح حظوة» العضوية الكاملة للراغبين فيها ـ وهم كثير ـ اعتبر دائما أن تركيا لا تستوفي الشروط اللازمة للحظوة بهذا الامتياز صعب المنال، وذلك بالرغم من كونها تتمتع بوضعية خاصة داخل الاتحاد ليست هي وضعية العضو كامل العضوية.

والشروط التي يفرضها مجلس الاتحاد الاوروبي للتكرم بالعضوية الكاملة على مستحقيها منها الظاهر المعبَّر عنه ومنها المستور الذي لا يُعلَن رسميا عنه، وإن كان يَرِد أحيانا على ألسنة غير مسؤولة من لدن بعض الأوروبيين الذين يقال عنهم كلما صرحوا بهذا المستور إنهم لا يعبرون عن رأي الاتحاد ولا يُعَدّ موقفهم ملزِما لموقف الاتحاد الرسمي.

أعرب رئيس الدولة الفرنسية الأسبق «جيسكار ديستان» أخيرا في تصريح صدر عنه عن رفضه لقبول تركيا في الاتحاد معللا ذلك بأن تركيا ليست دولة أوروبية. وزاد قائلا: «إن قبول تركيا في الاتحاد سيشجع على قبول أقطار غير أوروبية فيه تتطلع إلى الالتحاق به ومنها المغرب، وسيكون ذلك تحويلا للاتحاد عن مساره».

إن الرئيس الفرنسي الأسبق يحصر تجمع الاتحاد الأوروبي في بُعده الجغرافي الضيق. وهو موقف يعلن عنه رجل دولة أوروبي بهذا الوضوح لأول مرة، لكنه يصدر عن سياسي فرنسي لا ينطق باسم الاتحاد، وإن كان يقتعد منصب رئيس مجلس إعداد النظام الأساسي للاتحاد، لأن هذا المجلس ليس إلا تقنيا وستنتهي مهمته بإعداد مشروع النظام الأساسي. وهي محدودة في زمانها. وليس للمجلس أية سلطة غير ما خُوّل له. وبالتالي فليس هو مصدرا من مصادر القرار الأوروبي الذي تضطلع به أجهزة سياسية دائمة.

وإذا كان تصريح «جيسكار ديستان» قد أثار له وعليه سَيْلا من التعاليق لم يتوقف مدّه وجزره حتى اليوم، فإن توجهه بعد تصريحه المذكور إلى حاضرة الفاتكان واستقباله في 31 أكتوبر 2002 من لدن البابا وتسرُّب خبر طَلبِ البابا إليه أن ينص النظام الأساسي للاتحاد على أن حضارة أوروبا هي في أصلها يهودية مسيحية، كل ذلك زاد الحملة الإعلامية احتداما وأثار نقاشا صاخبا بين السياسيين والمفكرين الأوروبيين المنتمين إلى المجتمع المدني حول قضية الساعة: قضية قبول تركيا عضوا كاملا في الاتحاد أو رفضها.

تصدَّت للرد على الرئيس الأسبق «جيسكار ديستان» أقلام مفكرين أوروبيين سياسيين وأخذوا عليه نظرته القصيرة إلى رسالة الاتحاد الأوروبي منددين بحصرها في البعد الجغرافي أو البعد اليهودي المسيحي. وذهب البعض الى حد لوم الرئيس على اتخاذ موقفه ـ وهو اليوم غير مسؤول ـ عن قضية تركيا وتصرفه معها كما لو كان ما يزال في مكتبه بالإيليزي رئيس دولة فرنسا.

ربما كان للرئيس الفرنسي الأسبق الفضل في إثارة هذا النقاش الذي أثمر الكشف عما كان مستورا من أسباب تلكؤ الاتحاد الأوروبي في قبول تركيا العلمانية في حظيرته. فمن خلال ما كتبته شخصيات سامية فرنسية عن الموضوع ظهرت خبايا هذا السر المكتوم.

إن «ميشيل روكارد» (مثلا) الوزير الأول الاشتراكي الأسبق في حكومة فرنسا قبل الأخيرة (التي كان يرأسها ليونيل جوسبان المنهزم في الانتخابات الرئاسية أمام الرئيس شيراك) كتب مقالا بجريدة «لوموند» الباريسية بعنوان: «إن الجواب على طلب تركيا بنعم أمر حيوي». وذكر فيه الاسباب الافتراضية الاربعة التي أخرت قبول تركيا وحصرها في انتماء تركيا الى العالم الثالث، وفي كونها دولة مسلمة وإن كان نظامها علمانيا، وفي أنها ستشكل عندما تلتحق بالاتحاد أكثر الدول الأوروبية كثافة سكانية مما سيجعلها في الترتيب أولى دول الاتحاد، وفيما سيترتب على قبولها من تدفق هجرة الأتراك العاطلين عليها. وكل ذلك سيُدخِل الاتحاد الأوروبي أزماتٍ لا مخرج منها. وفي طليعتها أزمة افتقاد أوروبا هُويتها. وسيجعل من تجمعها المفروض ان لا يتعدى 25 دولة أوروبية كيانا متنافرا مهزوزا ومعرَّضا عِقدُه للانفراط.

بعض هذه الاسباب وجيه لكنه قابل للنقاش: فأَنْ تلتحق بالاتحاد الأوروبي دولة ذات أغلبية شعبية مسلمة فذلك لا تعارض فيه مع رسالة وتطلعات أوروبا اليوم كفضاء واسع يشكل قطبا عالميا متميزا ولا يحبس نفسه في بعد جغرافي محدود، بل بالعكس إن انخراط اقطار غير أوروبية في الاتحاد هو الذي سيجعل منه القوة الثانية العالمية. ولهذا المعطى تأثير على توازن القوى العالمية إذ به سيعود العالم إلى التعددية القطبية التي اصبحت أُحادية مرفوضة من أغلب العالم.

ولا تكون أوروبا منتجة ومفيدة وعالمية إلا بتنوعها الجغرافي والثقافي وحتى الديني، لأن التنوع اثراء واخصاب، إذ كل دولة غير أوروبية تلتحق بالاتحاد ستأخذ منه وتعطيه. والاكتفاء بالذات والانحباس في الجغرافية يعوقان عن التقدم وليسا حافزين دافعين للسير الى الأمام.

إن الاتحاد سيستفيد من دخول تركيا ليس بأقل مما ستستفيده تركيا من انخراطها فيه. كما سيستفيد ايضا من انخراط اقطار آسيوية أو افريقية ومغاربية فيه تنتظر قبولها في الاتحاد. وفي عهد نظام السوق أو نظام العولمة الاقتصادية ستنشأ سوق أوروبية كبرى للتبادل تستفيد منها جميع الاطراف وسيتنافس في التعامل معها العاملون الاقتصاديون من سائر القارات.

ولا ينبغي اعتبار اسلام تركيا عائقا إلا إذا كانت أوروبا تريد حبس نفسها في البعد اليهودي المسيحي وهذا ترفضه أغلبية دول الاتحاد التي تسودها نظم علمانية وتطبق علمانيتها بعقلنة وتبصر.

يمكن ان يكون سبب التضخم الديمغرافي مفهوما إلى حد ما. لأن عدد سكان تركيا يبلغ اليوم 66 مليونا، أي ان سكانها يتجاوزون بقليل سكان انجلترا، وايطاليا، وفرنسا، كل واحدة منها على حدة.

والمنتظر ان يرتفع عدد سكان تركيا في نهاية الثلاثين سنة المقبلة الى 100 مليون نسمة. وستصبح بذلك أكثر كثافة سكانية من ألمانيا التي تقتعد اليوم في الاتحاد الرتبة الأولى من حيث عدد السكان.

وهناك سبب آخر يُخاف منه على الاتحاد هو ان تركيا دولة فقيرة وتجتاز أزمة اقتصادية خانقة مستعصية عجزت احزابها القديمة عن حلها. وهذا أحد الاسباب التي من أجلها مُنيت الاحزاب العلمانية بالاخفاق في الانتخابات التشريعية الأخيرة التي افرزت رغبة الشعب التركي في إعطاء الفرصة للبديل الاسلامي.

إن ذلك يعني ان انخراط تركيا التي تعاني هذه الازمة الاقتصادية سيفتح الحدود لملايين الأتراك للهجرة إلى أوروبا للحصول على لقمة العيش. ودول أوروبا تعاني من الآن من تدفق هذا النوع من الهجرة عليها من جهات العالم، وستزيد الهجرة التركية هذه المعاناة تعقيدا.

بيد أن وضع الهجرة التركية وضع موقت ولن يطول، لأن تركيا تحتضن من الطاقات ما سيساعدها على اجتياز أزمتها حسبما يؤكده الأخصائيون.

وهناك سبب آخر كان ـ على ما يبدو ـ عائقا لانخراط تركيا في الاتحاد هو عدم الرضى عن توجهات الحكومات التركية السابقة وتقاعسها عن ممارسة الديمقراطية الاقتصادية والاجتماعية واحترام حقوق الانسان. والاتحاد ظل حريصا على ان لا يلتحق بالاتحاد إلا الدول التي ينسجم سلوكها مع ثقافة أوروبا وأخلاقياتها. وعلى سبيل المثال ألغت جميع دول الاتحاد الأوروبي في تركيبته الحاضرة (اتحاد 15 دولة) عقوبة الإعدام، وتعاملات بحذر مع النظم العالمية التي لا يعمل حكمها بآليات النظام الديمقراطي ولا يحترم حقوق الانسان. بينما ما يزال قضاء تركيا يُصدِر أحكامه بالإعدام، وما يزال نظامها المسمى بالديمقراطي نظاما شكليا فقط، يمارس فيه الجيش الحكم مباشرة عند الاقتضاء حسب مقتضيات الدستور. كما يرتكب الحكم حيال الأقليات الكردية والأرمينية (مثلا) ما يتنافى مع احترام حقوق الانسان والأخلاقيات والمثل الأوروبية.

أعتقد ان التغيير الجذري الذي أفرزه اقتراع ثالث نونبر المنصرم سيعصف بوجاهة هذه الاسباب. لأن تركيا تُحكَم اليوم بنظام صنعته صناديق الاقتراع الديمقراطي السليم. والإسلام الذي يحكمها ليس هو الاسلام الذي يتخوف منه الغرب. وسيكون تعامله مع حقوق الانسان أفضل من تعامل النظام العلماني معها لأن الإسلام هو دين حقوق الإنسان بجميع المعايير. وحزب العدالة والتنمية يراهن على ان الإسلام الذي يؤمن به وسيطبقه هو إسلام التسامح والتفاهم والتعايش مع المجموعة الدولية ومع فصائل شعبه المتنوعة.

وأظن أن الاتحاد الأوروبي سيتعامل من جهته مع الحكم الجديد بمنظور مغاير لمنظوره السابق، وسيتمعَّن في حقيقة التغيير الجذري الطارئ ويتعامل معه بدون حذر، بل بثقة.

وقد مهَّد حزب العدالة والتنمية الطريق بمبادرات ايجابية اتخذها لإعطاء علاقاته بأوروبا والعالم توجها جديدا إذ بادر الوزير الأول عبد الله غول إلى تحريك ملف طلب تركيا الانخراط في الاتحاد، وكانت أولى زياراته إلى اثينا بهدف حل مشكلة تقسيم قبرص بين دولتين تركية ويونانية، والإعراب عن استعداده لتقديم حلول عملية لإنهاء الأزمة السياسية المستعصية الناجمة عن هذا التقسيم. وأتبعها بزيارة الى مجلس أوروبا للحوار في التحاق بلاده بالتجمع الأوروبي. ولا شك أنه أعطى التطمينات اللازمة لمخاطبيه في الزيارتين.

أعتقد أن الإسلاميين الأتراك لن يسيروا على نهج الحكومات السابقة في التعامل بالقمع مع الأقليات، فبعضها يدين بالإسلام ولا يجوز ايذاؤه بجميع المقاييس الدينية واللادينية. فهل سينجح الإسلاميون الأتراك فيما فشل فيه العلمانيون؟

عدة معطيات تتضافر للجواب بنعم.