المشروع الأميركي الجديد: حرب أم ديمقراطية؟

TT

أخيرا... وبعد تردد طويل، أطلق كولن باول وزير الخارجية الأميركي، مشروع بلاده لتطوير الديمقراطية في العالم العربي، بعد أن درس الأمر طويلا، واستطلع كل الحساسيات، من أجل أن يصوغ مشروعه بطريقة لا تثير ردود فعل عربية. لقد تم اختيار كل جملة في المشروع بعناية، وتم تحديد كل هدف بدبلوماسية مفرطة. حتى عنوان المشروع تعرض ولا شك لدراسة متأنية حتى جاء على الشكل التالي «المشاركة الأميركية الشرق أوسطية: بناء الأمل لسنوات مقبلة». إن المشروع يتحدث عن توسيع الفرص الاقتصادية والتعليمية والسياسية في العالم العربي، وهذه صيغة لا تستفز أحدا، إن لم نقل أنها يمكن أن تقابل بالرضى، إذ لا أحد يستطيع أن يقول إنه يرفض توسيع الفرص في الاقتصاد والتعليم والسياسة.

وأمام هذا الطرح الإنساني والإيجابي والمحبب، تحضرني واقعة تاريخية شهدتها مفاوضات يالطا عشية انتهاء الحرب العالمية الثانية، حين جلس الكبار يقتسمون مناطق النفوذ في العالم. في ذلك المؤتمر حرص الرئيس الأميركي روزفلت أن يشرح للزعيم السوفياتي ستالين، شريكه في الحرب وفي الإنتصار على النازية، أسباب مبادرته لإنشاء الحلف الأطلسي كحلف عسكري رغم ان النازية قد هزمت. كان ستالين يعرف أن الحلف سينشأ لتأمين مواجهة غربية ضد الاتحاد السوفياتي، ولكنه كان يريد أن يسمع شرح الرئيس الأميركي للأمر، وهنا أطنب الرئيس روزفلت في شرح الأهداف السلمية للحلف العسكري الجديد. وبعد أن استمع ستالين طويلا، وجه حديثه إلى وزير دفاعه قائلا: أيها الجنرال إذا كان الأمر كما شرح الرئيس روزفلت فلماذا لا ينضم الاتحاد السوفياتي إلى هذا الحلف؟

وتوضح هذه القصة، أنه حتى حين يكون الأمر متعلقا بإنشاء حلف عسكري ضد جهة ما، فلا بد أن تتم تغطية الأمر بقبضة من القيم السلمية، وما نرجوه بكل أمل، هو أن لا يكون حديث كولن باول عن القيم التي ينطوي عليها مشروع بلاده الديمقراطي مجرد تغطية لأهداف أخرى، تكون هي الأهداف الحقيقية وراء المشروع الجديد.

وحين يكون الأمر متعلقا بدعم أميركي لتوسيع الفرص الاقتصادية والتعليمية والسياسية في العالم العربي، فإنني أدعو وبصوت مرتفع إلى تبني هذا المشروع، وبخاصة حين يبدأ ذكر المشاريع المحددة التي سيتم العمل لإنشائها سريعا، فحسب إليزابيث تشيني (ابنة تشيني نائب الرئيس بتطرفه المعهود) فإن المشاريع قيد الدرس هي:

1 ــ إنشاء مدرسة لتدريس مهارات تنظيم الحملات الانتخابية في دول الخليج.

2 ــ إصدار ترجمات عربية لكتب العلوم السياسية والاقتصاد الأميركية.

3 ــ تنظيم «استراحة» لأعضاء البرلمان المغربي بهدف مناقشة دور المجالس التشريعية.

4 ــ توسيع برنامج مصري في مدينة الإسكندرية لإشاعة اللامركزية في التعليم المصري العام.

5 ــ دعم مواقع الإنترنيت في المدارس، ويشمل ذلك كلية خاصة للفتيات في السعودية.

إن مشاريع من هذا النوع جديرة بأن تحظى بتأييد أي عربي، مسؤولا كان أم مواطنا، فهذا هو نوع التعاون الايجابي المطلوب بين الدول، تعاون حول كل ما هو خير من أجل الخير ولا شيء غير الخير. ولكن هل سيقتصر الأمر على هذا النوع من التعاون فقط؟ وهل ستستطيع الولايات المتحدة أن تحسن صورتها في العالم العربي من خلال مثل هذه المشاريع فقط؟ أليس للسياسة الأميركية الخارجية تجاه العالم العربي دور في هذه المسألة؟ يجيب جيمس زغبي رئيس المعهد العربي الأميركي على هذا السؤال بجملة معبرة تقول «سياساتنا تهزم تصريحاتنا حول قيمنا». وتقول السيدة دلال كريشان، وهي نائبة في البرلمان، وواحدة من 55 سيدة تونسية استضافتهن وزارة الخارجية الأميركية لمراقبة العملية الانتخابية «إن ما يعرقل وصول الرسالة الأميركية هو ما يحس به الناس من تحيز الولايات المتحدة ضد العرب». وهنا نصل إلى النقطة الجوهرية التي تحدد مصير هذا المشروع الأميركي الجديد، فإذا طرح هكذا معلقا في الهواء فسيواجه الفشل حتما، أما إذا ارتبط بسياسة أميركية جديدة تجاه المنطقة فسيلقى الترحاب الشديد. أما على أرض الواقع فلا زلنا نعيش دعما أميركيا فظا لأسوأ سياسات إسرائيل، واستمرار التهديد باحتلال العراق واستعمال القنابل النووية.

وعلى طريق التمهيد لهذا المشروع الأميركي، ألقى ريتشارد هاس مدير قسم التخطيط السياسي في وزارة الخارجية الأميركية (حل محل دنيس روس) محاضرة أمام «مجلس العلاقات الخارجية» يوم 4/12/2002، حملت عنوان «نحو مزيد من الديمقراطية في العالم الإسلامي»، حاول من خلالها، وبجهد إيجابي، شرح مبررات المشروع الأميركي الجديد، والإجابة على المخاوف العربية المطروحة، وكان حريصا في محاضرته أن ينتقد بعض المواقف الأميركية التي ترى أن الإسلام يشكل نقيضا للديمقراطية فقال «إن الديمقراطية والإسلام متلائمان»، مستشهدا بانتخابات المغرب والبحرين وتركيا، ومستشهدا بإسهام المسلمين في الحياة الديمقراطية حيث يشكلون أقلية ويقول «في بلدان مثل الهند وفرنسا وجنوب افريقيا، يدحض المسلمون الإشاعات الكاذبة بأن طريقة الحياة الإسلامية لا تتلاءم مع المشاركة الديمقراطية».

ويعترف هاس في محاضرته، بما يسميه بنعومة ولباقة «الاستثناء الديمقراطي»، وهو ما يعني بكلمات مباشرة: الدعم الأميركي للدكتاتوريات من أجل ضمان المصالح الأميركية، فيقول إن الولايات المتحدة تجنبت النظر بعمق في الأعمال الداخلية للبلدان، من أجل مصالحها المتمثلة في: النفط، كبح التوسع السوفياتي، قضايا النزاع العربي ــ الإسرائيلي، مقاومة الشيوعية في شرق آسيا، الحصول على القواعد العسكرية. ويعترف أنه ليس من مصلحة شعوب العالم الإسلامي أن تواصل الولايات المتحدة هذا الاستثناء.

ويتطرق هاس في محاضرته إلى توقيت ودوافع طرح المشروع الأميركي، في محاولة منه للرد على الاتهامات بأن الولايات المتحدة تطرح موضوع الديمقراطية لتقديم مبرر فقط لمهاجمة العراق وقلب أنظمة أخرى في المنطقة، فينكر ذلك متعللا بأن هذا الموقف الجديد يعبر عن مصلحة أميركية، بعد أن أدركت أميركا من خلال أحداث 11/9/2001 أن الأنظمة التي تعاني من الجمود الاقتصادي، وغياب فرص العمل، والزيادة السكانية، تكون أرضا خصبة لنمو الإرهاب. ثم يعدد هاس ثمانية دروس تعلمتها الولايات المتحدة من تجربتها العالمية، أبرزها أن هناك نماذج عدة للديمقراطية وليس نموذجا أميركيا واحدا سيتم تصديره، ولا بد من بحث تكييف الأنظمة السياسية لكي تتلاءم الديمقراطية فيها مع بيئتها المحلية، كما أن الديمقراطية لا تصنع، وتحتاج إلى وقت، وإلى مناخ من انتشار التعليم، ولا يمكن تشجيعها من الخارج بل لا بد من بنائها من الداخل. وهو يحاول من خلال هذا الطرح أن يجيب على مخاوف الكثيرين في العالم العربي، من ديمقراطية تفرض فرضا لأهداف سياسية قصيرة النظر، ومن دون فهم لاختلاف المجتمعات وتنوع تقاليدها وقيمها.

ولكن ريتشارد هاس عندما يتحدث عن الإنجازات الأميركية في مجال نشر الديمقراطية، يورد أمثلة غير مشجعة على الإطلاق. إنه يتحدث مثلا عن دعم الديمقراطية في التشيلي متجاهلا دور أميركا في القضاء على الديمقراطية عندما عندما كانت نتائجها غير مرضية لها (الليندي)، وحمايتها للديكتاتورية حين كانت مناسبة لها (بينوشيه). ويتحدث عن دعم الديمقراطية في جنوب افريقيا، متجاهلا الدعم الأميركي الطويل للنظام العنصري فيها. أما الدعم لحكومة إسرائيل، ولطبعتها الشارونية الراهنة، فإنه مثل يثير القلق والريبة إلى حد لا يستطيع فيه مشروع كولن باول أن يقيم تعايشا بين مشروع ديمقراطي وسياسة عنصرية تتطلع للتهجير العرقي.

نقطة أخيرة لا تشجع أبدا في محاضرة ريتشارد هاس فهو يبدأ حديثه مشيدا بالباحث اللبناني (فؤاد عجمي) الذي تولى تقديمه للمستمعين، لأنه إذا كانت الديمقراطية التي سيصدرها لنا مشروع كولن باول مستندة إلى كتابات فؤاد عجمي وتحليلاته، فإن الأمر لن يكون مشجعا على الإطلاق.