لماذا يتمرد الناس؟..

TT

مما لا شك فيه أن للظواهر الاجتماعية أسبابا عديدة يصعب حصرها، ولذلك فإن الدارس لهذه الظواهر لا يستطيع الجزم في نتائجه مثل جزم الدارس للظواهر الطبيعية، وذلك لكثرة المتغيرات وصعوبة تحديد اثار تداخلها في وقت واحد. من هذه الظواهر ظاهرة عدم الاستقرار السياسي وأسبابها، حيث تختلف أسبابها من مكان لآخر، ومن مكان لآخر، ومن ثقافة معينة إلى ثقافة أخرى. ولكن، وإن كانت النتيجة السابقة صحيحة، إلا أن هنالك تعميمات معينة يمكن استخلاصها من تاريخ البشرية، يمكن أن تنطبق على اختلاف درجاتها على معظم أحداث هذه المعمورة، ومن ذلك ظاهرة عدم الاستقرار السياسي، أو لنقل الاضطرابات السياسية على اختلاف درجاتها، بدءاً من التمرد الجزئي، وحتى الثورات الكبرى. فقد يكون سبب الاضطراب اقتصادياً، أو ثقافياً متعلقاً بمعنى مفاهيم معينة في هذا البلد أو ذاك، وقد يكون سبباً اجتماعياً متعلقاً ببنية المجتمع ذاته، وقد يكون كل ذلك أو لا يكون أي من ذلك، فالظاهرة الاجتماعية عموماً عصية على الفهم التام، ولا نستطيع في كثير من الأحوال إلا أن ندرس كل ظاهرة على حدة، من أجل الوصول إلى شيء من الفهم الشامل لما حدث وكيف حدث ولماذا حدث. ولكن الأهم من الأسباب العميقة للأضطراب السياسي هو تلك الأمور أو المتغيرات أو العوامل أو المستجدات التي «تعجل» العملية، أو تسارع في انفجارها، وتحدد حجمها، أي تمرد عابر أو هو ثورة شاملة. فالأسباب العميقة للاضطراب قد تكون موجودة في كل المجتمعات التاريخية والمعاصرة، فليس هناك مجتمعات كاملة أو مثالية منذ أن أُخرج آدم من الجنة وحتى يعود نسله إليها، ولكن هي المعجلات أو المسرعات تلك التي تحفر الأعماق، وتجعل من الأسباب الكامنة أسباباً فاعلة على السطح.

كتب كثيرة ناقشت «لماذا يتمرد الناس»، وفق عنوان كتاب تيد غور الكلاسيكي في هذا المجال، وهو الذي جعلناه عنواناً لهذه المقالة، وليس هنا مجال مناقشة تلك الكتب. ولكن في كتاب «الحركات الثورية المقارنة: بحث عن النظرية والعدالة»، يرى المؤلف أن هنالك عدة معجلات أو مسرعات تفاقم عدم الاستقرار السياسي، تُضاف إلى الأسباب العميقة لعدم الاستقرار، ذكر أهمها: الهزيمة العسكرية، الأزمة الاقتصادية، العنف الحكومي أو الرسمي، تمزق النخب، الإصلاح السياسي، والمحاكاة (توماس جرين. الحركات الثورية المقارنة: بحث عن النظرية والعدالة. بيروت: دار الطليعة، 1982)). وكلما ترافق أكثر من واحد من هذه المعجلات، كان الأثر أكبر، والعكس ليس بالضرورة صحيح. فالهزيمة العسكرية تؤدي إلى جرح عميق في الذات الوطنية من ناحية، وإلى تزعزع في الشرعية التي يرتكز إليها النظام السياسي الحاكم، وهذا هو الأهم من ناحية أخرى. فمن الملاحظ أن الكثير من الثورات وحركات التمرد على النظام القائم والانقلابات العسكرية وغير العسكرية، غالباً ما تعقب هزيمة عسكرية تجرح الكبرياء الوطنية وتشكك في شرعية النظام الذي قاد إلى الهزيمة. ثورتا 1905، و1917 الروسيتان كانتا في أعقاب هزيمة عسكرية مخجلة بالنسبة للوطنية الروسية. والثورة الفرنسية الكبرى عام 1789، كانت في أعقاب حرب فاشلة بين فرنسا وبريطانيا عام 1788. وكانت كومونة باريس الشهيرة مترافقة مع إخفاق العسكرية الفرنسية في حربها مع بروسيا عامي 1870 و1871. وفي أعقاب هزيمة المحور في الحرب العالمية الأولى، انفجرت الثورات وحركات التمرد في ألمانيا والنمسا والمجر وتركيا. وكانت هزيمة 1948 العربية، هي فاتحة عصر الانقلابات العسكرية العربية. وهزيمة عام 1967، كانت هي التي سحبت بساط الشرعية في النهاية من تحت أقدام الحكم الناصري في مصر، وأعادت تشكيل الذهن الايديولوجي العربي ليعود ذهناً مُديناً في الغالب الأعم، والأمثلة كثيرة.

أما الأزمة الاقتصادية فأثرها في «تمرد الناس» حاسم وقاصم في ذات الوقت. الثورة الفرنسية الكبرى كانت مسبوقة مباشرة بموسم حصاد سيئ، وبطالة متفاقمة، وأسعار عالية، وخاصة أسعار الخبز، وأجور منخفضة، وانفاق باذخ من ناحية أخرى في القطاعات العسكرية والبلاط الملكي للويس السادس عشر. والنازية الألمانية، وكذلك بقية الأحزاب الشمولية المتطرفة حتى في الولايات المتحدة، شهدت ازدهارها الأعظم في سنوات الكساد الكبير (1929 ـ 1932)، حين ارتفعت البطالة في ألمانيا من مليونين إلى ستة ملايين خلال سنوات ثلاث فقط. وانتفاضة الخبز في القاهرة عام 1977، كانت نتيجة مباشرة لرفع الدعم عن الخبز وارتفاع أسعاره. فالإنسان: «غالباً ما يتجه نحو الفعل المباشر نتيجة الظروف الاقتصادية المباشرة أكثر منه نتيجة الدعوات الايديولوجية للعدالة الاجتماعية. ولكن ما أن يقوم بالاحتجاج على نقص الغذاء والبطالة أو الأسعار المرتفعة، فإنه يصبح أكثر عرضة للتأثر بالايديولوجية والتنظيم الثوريين» (غرين، 156).

والعنف ليس قاصراً على حركات التمرد والعصيان المسلحة، بل ان الأعنف في كل مجال هو الدولة ذاتها، إذا ما سخرت أدواتها لممارسة العنف. ولكن الفرق هو أن عنف الدولة عنف شرعي، أي أن المواطن يرى حق الدولة في استخدامه، على عكس مصادر العنف الأخرى. ولكن أن تملك الدولة «الحق» في استخدام العنف، لا يعني لأن المسألة مطلقة أو مفتوحة الأطراف. فالدولة تستخدم العنف، أو يفترض أن تستخدم العنف، لضبط المجتمع وتنظيمه، ولكن عندما يتجاوز هذا العنف درجة معينة، تختلف حسب الظروف والأحوال، يصبح عنفاً غير شرعي، وتتساوى الدولة في ذلك مع بقية مصادر العنف الأخرى، ويصبح المنافس الأقوى في ممارسة العنف، هو المالك للشرعية السياسية في النهاية. وفي ذات الوقت، عندما يقل عنف الدولة عن درجة معينة، تعتمد أيضاً على الظروف والأحوال، فإن الدولة تفقد شرعيتها بنفس القدر السابق، إذ تبدو والحالة هذه وكأنها غير قادرة ولا مؤهلة لضبط المجتمع وتنظيمه. هذه الدرجة التي تحدد المقدار المناسب من عنف الدولة، يجب أن تؤخذ في الحسبان دائماً عند متخذ القرار السياسي، من حيث محاولة تحديدها بأكبر قدر من الدقة، ووفق تغير الظروف والأحوال، لأن ذات شرعية الدولة تعتمد في النهاية على مثل هذا التحديد: فالعنف الناقص مثله مثل العنف الزائد، كلاهما يؤديان، ضمن عوامل أخرى، إلى الاضطراب وعدم الاستقرار.

وتمزق النخبة السياسية راجع في كثير من جذوره إلى المعجلات الأخرى لعدم الاستقرار ومرتبط بها: فكلما كانت تلك المعجلات أكثر حدة، كان التمزق والصراع أشد، والعكس صحيح إلى حد كبير. وفي هذا المجال، يحلل جرين فيقول: «أن تمزق النخب نفسه ذو علاقة وطيدة مع الهزيمة العسكرية والأزمة الاقتصادية، وحتى لجوء النخبة إلى مستويات أعلى من العنف الحكومي قادر على أن يهدد تماسكها. فمهما كانت الصعوبات الآنية، فإن الزمر داخل النخبة تميل إلى أن لا تتفق حول كيفية حلها، كما أن الشخصيات المتصارعة من الممكن أن تستغل فرصة لازمة لتحقيق مطالبها بمراكز أعلى في الحكومة. إن تمزق النخب الناتج هذا ما هو، بشكل خاص، إلا إشارة واضحة لتدهور كفاءة الحكومة ومن المرجح أن يُقلل من شرعية النظام عند المواطنين» (ص161).

بإيجاز العبارة، فإن تمزق النخبة الحاكمة، أو الصراع بين أجنحتها المختلفة صراعاً شعاره «إما أنا أو أنت»، هو مؤشر على عدم كفاءة النظام الحاكم، وبالتالي قدرة النخبة الحاكمة، على الاستيعاب المشترك للقضايا الطارئة من ناحية، ومن ثم تآكل شرعية الدولة وبداية النهاية لمثل هذا النظام من ناحية أخرى، بالإضافة إلى كونه سبباً من أسباب ارتفاع درجة حدة المعجلات الأخرى، التي تزيد من حدة التمزق ذاته، وذلك في حركة لولبية متصاعدة لا تتوقف إلا بانهيار النظام ذاته في النهاية، أو بتحول جذري في ذات النظام يبدو معه وكأنه لم يعد ذات النظام. فالتمزق والصراع بين الأجنحة المتناحرة في النخبة الحاكمة الروسية مثلاً، كان هو المسؤول الأول عن الاضطرابات المتكررة التي عانت منها الدولة الروسية، ومن بعدها الدولة السوفيتية، وفي أميركا اللاتينية ومعظم الأنظمة السياسية في بلاد العرب، وخاصة الانقلابي منها.

ولكن كيف يكون الإصلاح السياسي وغيره من معجلات عدم الاستقرار، مع أنه هو المطلوب والمرفوع شعاراً من قبل فئات مختلفة، بعضها معارض، والبعض الآخر يود الإصلاح من الداخل؟ الجواب بكل بساطة هو أن التوقيت هو المهم هنا وليس مجرد العملية. فإصلاحات غورباتشوف ساعدت في النهاية على سقوط الاتحاد السوفيتي، ليس لأن الإصلاح في ذاته سيئ، بقدر ما أن الأوان كان قد فات لتجديد دماء النظام. فلو أن الاتحاد السوفيتي واصل إصلاحات خروتشوف في الخمسينيات، لربما ما كانت تلك النهاية التراجيدية للاتحاد السوفيتي. ولكن غورباتشوف كان يلعب في الوقت بدل الضائع إن صح التعبير، وهنا يكمن الخلل. وقبل ذلك كانت محاولات القيصر نيقولا الثاني في إصلاح النظام القيصري خلال فترة الحرب العالمية الأولى، ولكن ذلك لم يجد فتيلاً، إذا كان الأوان قد فات. لو أن القيصر واصل إصلاحاته التي اســـتهلها في أعقاب الهزيمة الروسية في الحرب الروسية اليابانية وثورة 1905، لربما ما كانت القيصرية ذاتها لتنهار، في مجتمع متدين كان يرى القيصر ظلاً لله على أرضه، ولما كانت الحال قد أوصلت إلى ثورتي فبراير وأكتوبر عــــام 1917. فبمثل ما أن على الدولة أن تحدد بدقة تلك النقطة التي تحدد مقدار العنف الواجب ممارسته، أو عدم ممارسته، فعليها أن تحدد بدقة أيضاً النقطة التي عندها يتوجب الإصلاح، وإلا فإنه لن يكون مجدياً بعد ذلك.

أما المحاكاة، فتعني بكل بساطة «عولمة» الحدث، إن صح التعبير. فحركة ثورية معينة في بلد ما، قد تؤدي إلى سلسلة من الأحداث المتشابهة في بلاد أخرى، وأبرز مثل لذلك الثورة الفرنسية والروسية والصينية وأثرها في حركات مشابهة في أماكن أخرى. بل أن الثورة الإيرانية عام 1979، أدت إلى نشوء حركات وتيارات من الإسلام السياسي التي كانت تسعى لمحاكاتها في ما قامت به في إيران.

الخلاصة: للتاريخ قوانين، وللسلوك البشري نواميس، وللكيانات سنن قد لا تكون بمثل دقة وصرامة قوانين ونواميس وسنن الطبيعة، ولكنها موجودة. وقد لا يستطيع الإنسان تغيير مصائر معينة، ولكنه يحاول من خلال المعرفة أولاً..وفي المحاولة يكمن معنى كل الوجود.. منذ أن أكل آدم من الشجرة المحرمة فأخطأ بحق ربه، وحتى تاب ربه عليه بعد ذلك، وكان من الصالحين.