الفصل العرقي حقيقة أميركية

TT

اصبح العالم يعرف، الآن، ان السناتور ترنت لوت يواجه العديد من المتاعب بسبب التعليقات التي ادلى بها في 5 ديسمبر في الاحتفال بعيد الميلاد المئوي للسناتور ستورم تورموند، الذي قرر التقاعد.

فقد اشار لوت في الاحتفال انه عندما تقدم ثورموند للترشيح لمنصب الرئيس في انتخابات عام 1948 كمرشح عن حزب «حقوق الولايات» فإن صوت ولاية ميسيسيبي، التي يمثلها لوت، صوتت لصالح ثورموند.

وقال لوت آنذاك: «اريد القول ذلك عن ولايتي. عندما ترشح ستورم ثورموند لمنصب الرئيس صوتنا له. ونحن نفخر بذلك. واذا صوتت باقي البلد مثلما فعلنا، لما واجهنا كل هذه المشاكل طوال السنوات الماضية».

والقضية بالطبع هي ان النقطة الاساسية في حزب حقوق الولايات هو انه من حق الولايات رفض ضغوط الحكومة الفيدرالية لانهاء السياسات القائمة في عديد من الولايات بالفصل المتشدد للاجناس. وهي السياسة المعروفة بالفصل.

وفي الواقع فإن حزب حقوق الولايات شكله اساسا الديموقراطيون في جنوب الولايات المتحدة الذين تركوا الحزب احتجاجا على انتقاله الى دعم سياسة مكافحة الفصل العنصري. وقاد ثورموند وهو من كبار المؤيدين للفصل، الحركة في عام 1948. وفازت حملته بأربع ولايات في الجنوب..

وفي الوقت الذي استمر فيه الديموقراطيون في تأييد سياسات مكافحة الفصل العنصري في العقود التالية، ترك العديد من الديموقراطيين، في الجنوب، الحزب وانضموا في النهاية الى الحزب الجمهوري. وفي الواقع، فإن الانتقال التاريخي، في السياسة الاميركية، للولايات الجنوبية من الحزب الديموقراطي الى الحزب الجمهوري، كان عملا من اعمال السياسات الراديكالية.

وفي ذلك الاطار، فإن تعليقات لوت، تبدو اقرارا واضحا لسياسة ثورموند القائمة على الفصل العنصري، وتذكرة بالانقسام العنصري العميق الذي لا يزال يلعب دورا في الولايات المتحدة اليوم.

وبالرغم من ان الفصل العنصري انتهى قانونيا في الستينات، فإن تراث الانفسام العنصري لا يزال قائما. ففي العقود الماضية اقر الكونغرس العديد من التشريعات، وطبقت الحكومة الاميركية العديد من القوانين لانهاء التفرقة ومنح الفرص المتساوية لجميع الاميركيين. وتم تجريم الفصل في التعليم والاسكان الحكومي وغيرها من الخدمات. وتم اتخاذ خطوات لتقديم ما اصبح يطلع عليه «العمل الايجابي» ـ بحيث يمكن منح الاميركيين الافارقة، الذين تم تجاهلهم في مجالات معينة مثل العمل والاسكان والتعليم الى آخره تلك الحقوق مرة اخرى. وتم ضمان حق الاميركيين الافارقة في التصويت. وفي الفترة الاخيرة اطلق الرئيس السابق كلينتون حوارا على المستوى الوطني حول الانتماءات العنصرية في محاولة للمساهمة في علاج الانقسام العنصري.

وبالرغم من ذلك، فإن المشاكل لا تزال قائمة. الافارقة الاميركيون لا يزالون قلقين من الهوة القائمة في الفرص الاقتصادية والتعليمية. وعبر بعض البيض عن استيائهم بخصوص العديد من البرامج الفيدرالية، التي اشتكوا من انها تسببت في حرمانهم من بعض الحقوق.

وقد استغل السياسيون، احيانا، هذه المخاوف، ولذا فإن العنصرية لا تزال قضية انتخابية قوية. فقد لاحظ جيسي جاكسون، وهو زعيم مشهور من قيادات الحقوق المدنية، كيف لجأ بعض السياسيين الى اصدار «رسائل مشفرة» للمستمعين البيض واستغلال مشاعر القلق لديهم.

وقد تم تقييم ملاحظات لوت في هذا الاطار. ويسأل البعض، ماذا كان لوت يقصد بالضبط بـ «كل هذه المشاكل».

حقيقة ان السناتور لوت ليس جمهوريا عاديا تعني ان نتائج معينة ستترتب على تعليقاته. ثمة امر مثير للانتباه يتمثل في الطريقة التي بدأت بها قضية لوت في الظهور، ففي البداية لم تكن تعليقات لوت محل ملاحظة ولم تنتشر على نطاق واسع. وحتى عند نشرها في 5 ديسمبر لم تنتشر على مستوى الولايات على مدى خمسة ايام. في البداية تصدى بعض الأعضاء السود في الكونغرس ونائب الرئيس السابق آل غور بصورة علنية لتعليقات لوت ووبخوه عليها.

في 10 ديسمبر باتت القصة حدثا رئيسيا واكتسبت اهمية واضحة، فضلا عن ظهور المزيد من الجوانب حول سجل لوت في القضايا العنصرية الى جانب تعليقات اخرى ادلى بها في السابق. أولا، اتضح ان لوت ادلى بتعليقات مماثلة عام 1980 خلال عمله في حملة الرئيس السابق رونالد ريغان في ميسيسيبي. كما توصل باحثون في وثائق وسجلات رسمية الى ان لوت عمل في بداية حياته المهنية كمساعد لعضو ديمقراطي في الكونغرس معروف بتأييده لسياسة الفصل العنصري.

يضاف الى ذلك ان لوت تقدم أمام المحكمة العليا الاميركية عام 1981 بحجة مؤيدة لمدارس خاصة قائمة على اساس الفصل العنصري. كما ان لوت صوت في الكونغرس ومجلس الشيوخ ضد تجديد قانون حقوق الاقتراع وقانون عطلة مارتن لوثر كينغ الفيدرالية وقانون الحقوق المدنية.

عمل لوت ايضا على الإبقاء على انتمائه الى «مجلس المواطنين المحافظين»، وهي مجموعة تتبنى فسلفة مؤيدة لنظام الفصل العنصري.

ازدادت تطورات القصة وزادها سخونة ظهور بعض المعلومات الجديدة، كما ان الديمقراطيين الذين آثروا الصمت بدأوا في التعبير عن غضبهم. المحافظون من جانبهم كانوا يمثلون ثلاثة مجموعات. فبعضهم، مثل «مجلس ابحاث الاسرة»، انتقد لوت بشدة، اذ ظهر ذلك واضحا في بيان نشر في 10 ديسمبر قال فيه المجلس: «يبدو ان السيناتور لوت لم يضع اعتبارا لما يمكن ان تسفر عنه مثل هذه التعليقات وسط السود. فالضرر التي تسبب فيه كبير... الكلمات لها اثر، بصرف النظر عن ما كان في ذهن لوت عندما تحدث. كلمات السناتور لوت فهمت من جانب السود كونها رفضا لإنهاء نظام الفصل العنصري وحركة الحقوق المدنية».

وفي نفس الوقت حاول محافظون آخرون الدفاع عن تعليقات لوت كونها غير مؤذية وقالوا انها لا تعكس معتقداته الحقيقية، فيما آثرت الصمت غالبية من المحافظين ادركت الأبعاد المحتملة للضجة المتزايدة.

اما الرئيس بوش، فقد ادلى في البداية بتصريح تضمن تأييدا معتدلا للوت، لكنه ادرك في نهاية الامر ان الموقف يتطلب المزيد من الحديث. في 12 ديسمبر قال الرئيس بوش ضمن حديثه حول مبادرة له طرحها في الآونة الاخيرة: «أي اشارة تتضمن قبول الماضي القائم على نظام الفصل العنصري في الولايات المتحدة او الحديث عنه بوصفه امراً ايجابياً يعتبر خطأ. التعليقات التي ادلى السيناتور ترنت لوت في الآونة الاخيرة لا تعكس روح دولتنا... فأي يوم مارست فيه بلادنا سياسة الفصل العنصري كان يوما تنكرت فيه اميركا للمبادئ التي قامت على اساسها».

ظهر لوت اخيرا نهاية الاسبوع وتقدم أمام المراسلين الصحافيين باعتذاره الرابع في محاولة اخرى لتهدئة العاصفة المتزايدة.

لم يعرف بعد ما اذا ستسفر مساعي لوت عن نجاح. الرئيس بوش وبعض الجمهوريين حاولوا من جانبهم الوصول الى اكبر عدد من الناخبين السود، اذ ربما شعروا بأن تعليقات لوت ستلحق ضررا بمساعي الحزب الجمهوري في كسب تأييد الناخبين السود. ومن المحتمل ان يتخذوا قرارا بالضغط على لوت للتنحي كزعيم للأغلبية.

الديمقراطيون من الجانب الآخر سيواصلون الضغط باتجاه حمل لوت على الاستقالة، فضلا عن انهم رفضوا حتى تعليقات الرئيس بوش، بل قالوا ان الرئيس اذا نجح في مساعيه ذات الصلة بتخصيص التعليم وإنهاء البرنامج الخاص بضمان الفرص المتكافئة ونبذ التمييز، فإن المكاسب التي حققها السود ستكون مهددة بالخطر. فالصراع الذي نتج عن تعليقات السيناتور لوت لم ينته.

يشير كل ذلك بوضوح الى انه على الرغم من التقدم الذي تحقق، فإن مفهوم الفصل العرقي في الولايات المتحدة امر واقعي وقوة فاعلة في الحياة السياسية في الولايات المتحدة.

* رئيس «المعهد العربي الاميركي في واشنطن