ملايين باول!!

TT

العشرون مليون دولار التي تنوي الولايات المتحدة انفاقها لتعزيز الديمقراطية في المنطقة العربية من خلال دعم منظمات المجتمع المدني، لن تؤدي إلا الى فتح «دكاكين» جديدة للفساد والارتزاق الرخيص والتشجيع على تشويه صور الدول المعنية من خلال كتابة التقارير الكاذبة، واجراء الاستطلاعات الوهمية، وبالتالي توسيع دائرة البطالة المقنعة وزيادة عدد تجار الكلام وباعة نظريات حقوق الانسان والحريات العامة.

ضروري ولازم وهام تقوية وتعزيز العلاقات الثقافية والاقتصادية والتربوية بين الولايات المتحدة والشعب الاميركي وبين الدول العربية وشعوبها. فلقد اثبتت كارثة الحادي عشر من سبتمبر (ايلول) وما تلاها من ردود أفعال متبادلة، ان هناك هوة كبيرة بين الاميركيين والعرب، بخاصة في المجالات الثقافية والتربوية، وان هناك سوء فهم متبادلاً، وان مؤسسات البحث ومراكز الدراسات الاميركية لم تفلح في نقل الصورة الحقيقية للعرب والمسلمين الى المواطن الاميركي، الغارق في همومه اليومية، والمتحصن خلف بحور الظلمات بعيدا عما يجري في هذه المنطقة، التي هي بالنسبة اليه مجرد براميل نفط وصحارى قاحلة ورجال يعشقون النساء ويبددون ثروات بلدانهم في المرابع الليلية الغربية.

لن تحقق العشرون مليون دولار في مجال تعزيز الديمقراطية في المنطقة العربية أكثر مما حققته التسعون مليون دولار التي صرفت للمعارضة العراقية لاسقاط نظام صدام حسين، وبالاساس فإن التفكير بهذه الطريقة القاصرة والبائسة والعقيمة يدل على ان الاميركيين يجهلون هذه المنطقة، رغم كل مصالحهم فيها، ويدل على انهم ما زالوا يتعلقون بتلك الصورة التي رسمها «العزيز» هنري كيسنجر للمسؤول العربي إبان مفاوضات كامب ديفيد المكوكية، وهي انه شيخ القبيلة الجالس على ارائك وثيرة في خيمة صحراوية، والذي يمضي وقته في المساومات التي لا يتقن غيرها والذي يستقبل باستمرار رجالا يواصلون هز رؤوسهم.

المشكلة الاساسية ليست هنا، رغم اننا نتحمل جزءا كبيرا من المسؤولية، إن المشكلة هناك في الولايات المتحدة، وإذا أراد كولن باول النجاح لمشروعه فإن عليه ان يتوجه أولا الى مراكز البحوث في بلاده المسيطر عليها من مراكز قوى ومؤسسات مالية لا شغل لها إلا الامعان في تشويه صورة العربي في ذهن المواطن الاميركي خدمة لاغراض سياسية تتعلق بالصراع في الشرق الاوسط.

الديمقراطية ليست مصلاً مقاوماً للقمع والديكتاتورية يمكن ابتياعه بعشرين مليون دولار وحقن عضلات الشرق الاوسط والعالمين العربي والاسلامي به، والمجتمعات الشرق أوسطية ليست مجتمعات قهر وقمع بالتكوين المتوارث، كما تقول مراكز البحوث المتحيزة في الولايات المتحدة.. إن الأمر يتعلق بظروف وبوسائل انتاج عاش الغرب مثلها عندما كانت محاكم التفتيش تقتحم عقول الناس وصدورهم وتطارد الفنانين وكل اصحاب التوجهات التجديدية.

إذا كانت الخارجية الاميركية تريد انفاق عشرين مليون دولار تعزيزا للديمقراطية في الوطن العربي بنفس طريقة انفاق تسعين مليون دولار لاسقاط نظام صدام حسين فإننا نقول: «ابشر بطول سلامة يا مربع» فالنتيجة معروفة منذ الآن.. المزيد من دكاكين الارتزاق والمزيد من كتبة التقارير «المفبركة» والمزيد من الاستطلاعات الوهمية والمزيد من المؤتمرات وورش العمل الفارغة والاستعراضية.

على الخارجية الاميركية قبل ان تنفق ملايينها العشرين على أناس هامشيين ومؤسسات مصطنعة أن تحاول فهم هذه المنطقة، وان تلتقط حقائق الامور فيها، وان لا تبقى تنظر الى العالمين العربي والاسلامي من ثقب مراكز البحوث والدراسات المتحيزة، وان يكون لديها استعداد لادراك ان الانسان العربي ليس هو الانسان الذي رسم صورته «العزيز» هنري كيسنجر ذات يوم في بدايات مباحثات ومفاوضات كامب ديفيد.