العزاز

TT

كانت آخر رسائله لي ذيلها بجملة ظننتها اعظم اختصار قرأته في حياتي، «اخي عبد الرحمن عمري ضاع بين السجون والمستشفيات!!». رواية قصيرة جدا ومؤلمة جدا، وكما يعرف كل اصدقائه، وهم كثر، فان صالح العزاز غادرنا بأكبر حب يتمناه انسان.

وقصة العزاز مصلوبا لا يجهلها احد، مثلت لنا جميعا مأساة كبيرة، عبرت عن كل شيء يريد المرء ألا يراه، ومع هذا كان اكثر الناس الذين عرفتهم تسامحا لا ينظر وراءه ابدا. تسامح خبرته رفيقة عمره بدرية. تقول متذكرة، وهو يضحك، ان الشرطي الذي اصطحبه نسي ما معه واضطر صالح، وهو السجين المرافق، ان يدفع نيابة عنه، وكيف زوجها نام هانئا طول الطريق لأنه لم يكن يدري كم ساعة سيغيب، فكانت رحلة اشهر طويلة. وبدرية امرأة صلبة عملت محاميته في زمن سجنه، لم يدافع عنه مثلها، تحثنا على نجدته وإنصافه، رعته كل فترة مرضه وغربته، التي كانت مرضها وغربتها ايضا.

وقد تبدو المرثية في شخص اعزه كثيرا بلا ذوق عندما اضمنها قصة عن ساعة فكاهية كان نجمها الوحيد لكنها من الساعات التي لا تنسى. صديقنا العزاز عندما زرناه في هيوستن حيث كان يتداوى كان اكثرنا مرحا وحيوية، اصدقاؤه دخلوا داره مهمومين من لقياه، كيف يحادثونه مريضا، وبأي لغة وعن أي موضوع. ففاجأهم جميعا بروح افضل مما لديهم. استضافنا ساعة مليئة بالمرح، تحدث فيها عن نفسه ورفاقه واخطائه. لا اعتقد ان احدا منا عرف مريضا بتلك الروح الرفيعة من النقد الذاتي والسخرية البريئة، يطالعنا ممازحا فيقول موجها حديثه لي «ربما لا تدري الحقيقة.. كنت ليبراليا مدسوسا عليكم».

ان الانسان المريض حقا هو ذلك الذي تتوقف دقات ساعته، الذي يتوقف معها بائسا ناقما عند محطاته القديمة متجرعا ظلاماته. العزاز لم يتوقف طول حياته او ينظر خلفه. عامل الساعات السيئة ككوميديا سوداء يمكن للانسان ان يضحك منها. حتى في الأشهر الثمانية عشر الماضية التي قضاها في العلاج، تعامل مع من وما حوله معافى اكثر منا حتى بت في فترة اتساءل إن كان يدري او يجهل انه مصاب بمرض النهاية، فتصرفاته لم تكن توحي بذلك. كان يوحي بأن علاقته مع فيليب سالم علاقة صحافي بصاحب مهنة بارز لا علاقة مريض بطبيب. ومع الوقت حول طبيبه الى صديق آخر، يتبادلان الكتب والمقالات والحوارات فلم تنقطع الا ساعة سفره الاخيرة. كنت اقول للاصدقاء عندما يسألون بكثرة عنه انه مشغول في مقابلته الصحافية مع الدكتور لا الطبيب سالم. وكانت له رؤيته في حساب الايام حيث قال عن فترة عمره الاخيرة انها اجمل سنينه لانه قضاها مع اولاده.

ودعناه مبدعا نادرا ككل المبدعين، عجز عن التعامل مع حياته على حقيقتها مما سبب له الكثير من الاذى والمعاناة، لكنه لم يخفق قط في ان يثبت لنا انه اكثر صوابا في فهمه واحاسيسه وصدقه، ولا شك اننا نعرف انه كان اكثر استحقاقا للتقدير الذي لم يعط له، الا قليل القليل. العزاز غادرنا الى رحمة الله الواسعة، غفر الله له ولوالديه.