إسرائيل تتحدث عن عام الحسم.. وحملة أميركية للإصلاح في المنطقة

TT

يتحدثون في اسرائيل الآن عن السنة القادمة بحسبانها «عام الحسم» مع الفلسطينيين، ويبنون هذا التقدير على أساس أن الهجوم الأميركي على العراق، ومن ثم اسقاط نظامه، واقع لا محالة، الأمر الذي يشكل فرصة ذهبية لاسرائيل، كي تحسم أموراً كثيرة معلقة في الملف الفلسطيني، بدءاً من مصير السلطة الراهنة المراد تغييرها وإحلال عناصر أخرى مرضي عنها محلها، وانتهاء بالقضاء على المقاومة اللبنانية وتصفية مراكز المقاومة الفلسطينية في دمشق، ولاتتحدث الصحف الاسرائيلية عن احتمالات طرد بعض الفلسطينيين في وجبة «ترانسفير» جديدة، تجنباً للآثار السلبية التي يمكن أن تنشأ عن أي اعلان في هذا الصدد. لكن القيام بهذه العملية يعد من الأمور المستقرة لدى المتابعين للسياسة الاسرائيلية.

في عدد صحيفة «هاآرتس» (12/9) استعراض لبعض الترتيبات التي اتخذتها القيادة العسكرية الاسرائيلية في اطار التخطيط للحسم المرتقب، ففي مقال كتبه عاموس جبرئيل في العدد المذكور أشار إلى أن رئيس الأركان الجديد الجنرال موشيه يعلون تحدث بوضوح عن موضوع الحسم في العام الجديد، انطلاقاً من الافتراض بأن الهجوم الأميركي على العراق سيوفر اجواء مواتية لتحقيق ذلك الهدف. ولم يكن وحيداً في ذلك، فقد لمح إلى ذات المعنى وزير الدفاع شاؤول موفاز، في خطاب القاه في مؤتمر عقد بهرتسليا، وهو من يدعو دائماً الى تحطيم السلطة الفلسطينية وطرد الرئىس عرفات.

مما كتبته الصحف العبرية حول موضوع عام الحسم يفهم المرء أن المقصود ليس اغلاق ملف القضية التي يسلمون بأن النزاع حولها سيطول الى أمد غير معلوم. انما المقصود توجيه ضربة قاضية للفلسطينيين تقصم ظهرهم، مع احكام الحصار حولهم محلياً واقليمياً.

حسب مقال «هاآرتس» فان رئيس الأركان موشيه يعلون دعا الى ورشة عمل في شهر اكتوبر (تشرين الأول) لمناقشة الاجراءات الواجب اتخاذها في اجواء الحملة على العراق، كما أن الأقسام والقيادات المختلفة أجرت دراسة حول ذات الموضوع، وانتهت الى بعض الترتيبات التي تضمنتها خطة قدرت تكلفتها بمبلغ نصف مليار شيكل، وتتعلق تلك الاجراءات بمضاعفة القوات المنتشرة عند خطوط التماس، وتشكيل كتيبة استخبارات جديدة، تضم وحدات هجومية، واتخاذ خطوات متعددة لدعم الوحدات المتنكرة العاملة داخل أوساط الفلسطينيين، وتحسين وسائل النقل والتحصين لتقليل الخسائر البشرية في صفوف الجيش الاسرائيلي.

ثمة تفعيلات كثيرة في تلك التحضيرات، فكرتها ـ من وجهة نظرنا ـ أهم من طبيعتها. أعني بذلك مبدأ ارتباطها بالحملة الأميركية على العراق، التي تشير التقارير الاسرائيلية الى أنها محل اهتمام كبير من جانب حكومة تل أبيب التي أرسلت وفداً عسكرياً وأمنياً الى واشنطن لمناقشة المسؤولين الأميركيين في جوانبها المختلفة، خصوصاً امكانية مشاركة اسرائيل فيها، وموقفها اذا حدث وتعرضت لقصف صاروخي عراقي. كما حدث أثناء حملة تحرير الكويت من الاحتلال العراقي، ثم مدى استفادة اسرائيل من الوضع المستجد في بغداد، اذا ماتم اسقاط نظامه.

المعلومات المتوافرة حتى الآن ان الولايات المتحدة تريد أن تظل اسرائيل خارج الصورة ظاهرياً، حتى لايؤدي ذلك الى استنفار أو استفزاز العالم العربي والاسلامي، تريد أن تبقى اسرائيل في الظل، بمعنى أن يكون لها دور غير مباشر سواء في الحملة أو في المرحلة التي تعقب اتمامها. فتقدم ماتستطيع من تسهيلات أو عمليات استخبارية، وتحصد ماتيسر من فوائد من النظام الجديد، في الوقت ذاته فان واشنطن طلبت من الحكومة الاسرائيلية ألا تستثمر فرصة الحرب لاحداث تحولات جسيمة على الأرض الفلسطينية تستثير العالم العربي المراد تسكينه لأطول فترة ممكنة ولكن من الواضح أن الحكومة الاسرائيلية لم تقبل بالمطلبين، فهي لا تريد أن تبقى في الظل أثناء الهجوم، ولاتريد أن تلتزم الصمت اذا ما أطلقت عليها الصواريخ العراقية، كما حدث قبل عشر سنوات. لكنها حريصة على أن تثبت حضورها وتستعرض عضلاتها، وتبعث الى كل الجيران برسائل ترهيب وتحذير، في الوقت ذاته فحكومة شارون لها حساباتها الداخلية التي تدفعها إلى اغتنام الفرصة والقضاء على المقاومة، وتهجير أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين، لتفريغ الأرض إعداداً لاستقبال المزيد من المستوطنين المهجرين، الذين يريد شارون أن يستجلب منهم مليوناً ونصف مليون، لتكريس الاحتلال والتحسب لاحتمالات الخلل السكاني المفترض بين العرب واليهود.

في حدود المعلومات المتوافرة فان الاتفاق لم يتم بين الطرفين حول الأمرين، وان اسرائيل مطمئنة إلى أن «رجالها» في الادارة الأميركية سينجحون في اقناع القيادة الأميركية «بتفهم» موقف تل أبيب بدرجة أو أخرى. لذلك فان الترتيبات والمخططات الاسرائيلية ماضية في اتجاهها المرسوم، وما الاعلان عن «عام الحسم» القادم الا اشارة لا تخفى دلالتها الى أن اسرائيل تتوقع أن تحصد الكثير في حملة اسقاط النظام العراقي.

لدغدغة المشاعر الأمنية الأميركية من ناحية، ولتهيئة الرأي العام لدور اسرائيلي فعال في الخارج و«حاسم» في الداخل، بدأت الأجهزة المعنية لديها بالترويج لفكرة أن الفلسطينيين أقاموا علاقات مع تنظيم «القاعدة»، الذي أصبح رمزاً للشر الأكبر والخطر الداهم الذي يهدد العالم بأسره، وتمتد أذرعته في مختلف أرجاء الكرة الأرضية. وذلك بعدما نجح الاعلام الأميركي في الترويج لتلك الصورة النمطية واقناع الرأي العام بها. بحيث أصبح مجرد انتساب أي طرف الى التنظيم من أي باب مبرراً لاستحلال دمه وابادته من الوجود. ولا أستبعد أن يكون الاسرائيليون في ذلك قد اقتفوا اثر الحكومة الأميركية التي تبذل جهوداً حثيثة للربط بين النظام العراقي وبين القاعدة، كي يصبح ذلك سبباً اضافياً يسوغ الهجوم واسقاط النظام.

لقد تتابعت في الأسبوع الماضي التقارير التي تحدثت عن انكشاف سعي المخابرات الاسرائيلية لزرع خلية باسم القاعدة في غزة، واعتراف أحد الفلسطينيين بمحاولة عميل للموساد تجنيده عضواً بتلك الخلية. وتحدثت تقارير أخرى عن موقع على شبكة المعلومات العالمية «الانترنت» عن تشكيل فرع للقاعدة في فلسطين. وتحركت الآلة الاعلامية الأميركية في ذات الاتجاه، حيث سلمت بصحة تلك التقارير، وتتابعت اصداؤها في واشنطن محذرة من التداعيات والنتائج فقرأنا تصريحاً لمديرة الشرق الأوسط في مجلس العلاقات الخارجية الناطق باسم اسرائيل في الولايات المتحدة (اسمها راشيل برونسون،) قالت فيه «ان فكرة أن «القاعدة» شكلت خلية خاصة للتركيز على الاسرائيليين هو أمر مرعب» («الشرق الأوسط» 7/12).

انهم يهيئون المسرح للانقضاض في عام الحسم المرتقب. وليسوا وحدهم في ذلك، حيث تزامن الحديث عن عام الحسم مع الاعلان الأميركي عما سمي بخطة الاصلاح الديمقراطي، التي استهدفت اعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط، وهو مخطط مواز آخر تتردد في صدده أقاويل واجتهادات كثيرة، بعضها يستهدف الأنظمة والبعض الآخر يستهدف المجتمعات والمؤسسات المدنية. وفي العدد الأخير من مجلة نيوزويك (17/12) تصريحات منقولة عن كوندوليزا رايس مستشارة الأمن القومي الأميركي قالت «ان الولايات المتحدة جادة في مساعدة المجتمعات العربية على أن تصبح أكثر انفتاحاً وديمقراطية»... وان الادارة الأميركية «اذا ساعدت في اقامة أفغانستان ديمقراطية، وفي اصلاح السلطة الفلسطينية، وفي اقامة عراق ديمقراطي فمن شأن ذلك أن يرسل اشارات قوية جداً عبر العالم الاسلامي».

ان مختلف الشواهد تدل على أن منطقة الشرق الأوسط ستكون في العام الجديد مسرحاً لمتغيرات مهمة، وجراحات من العيار الثقيل ـ وأحسب أننا لسنا بحاجة لأن نشرح أسباب استهداف هذه المنطقة لكني أقول باختصار إنها منطقة المشاكل والأطماع فضلاً عن أنها بمثابة الساحة الرخوة، التي يستطيع أي طرف له حظ من القوة أن يعبث بها كيف يشاء، وهو مطمئن الى أن ذلك لن يكلفه كثيراً.

لا نستطيع أن نتوجه باللوم الى الذين يخططون لمستقبل المنطقة، ويمنون أنفسهم بالحظوظ والأطماع والجوائز، لكننا لانستطيع أن نقف موقف الصمت أو المتفرج ازاء ذلك كله. ولا أعرف، ولا أكاد أرى، تحركاً على أي مستوى عربي يحاول التفكير أو التدبير لما يلوح في الأفق من احتمالات وسيناريوهات، قرأت أن هناك دعوات صدرت لعقد قمة استثنائية، وهو ماسخر منه أحد الكتاب، واعتبرها «دعوة تصب في خانة العجز والخيبة والضحك على أنفسنا».

وهي ملاحظة جديرة بالانتباه، اذ اننا كلما دعونا أو تمنينا شيئاً من العمل العربي المشترك، الذي ليس لنا بديل عنه، ووجهت تلك الدعوة بسياط الرافضين وسخرية اليائسين وتجريح المعقدين في شيء اسمه العروبة أو العمل المشترك. كأنما المطلوب منا أن ندفن رؤوسنا في الرمال، وأن ننتظر من الآخرين أن يصنعوا لنا قدرنا. وذلك لعمري هو طريق الندامة، الذي من سلكه هلك، ومن نبذه نجا... ادعو الله أن نكون من الآخرين، وليس من الهالكين.