هموم الإنسان العربي

TT

لو أني كتبت ألف مقال ومقال. لو أني نظمت ألف قصيدة وقصيدة. لو أني غنيت ألف أغنية وأغنية عن هموم الإنسان العربي فسوف أجد نفسي بحاجة إلى آلاف أخرى من المقالات والقصائد والأغنيات. فتلك الهموم لن تنفد لكثرتها وتعددها. والهموم التي تعنيني هي الهموم العامة التي يحس بها الجميع، ويشترك فيها الجميع، ويتألم لها الجميع. هموم اجتماعية وهموم اقتصادية وهموم سياسية.

قرأت قبل سنتين تقريبا مقالة عن حقيقة اقتصادية تفيد بأن قيمة الإنتاج الوطني الإسباني تزيد عن قيمة الانتاج القومي لكل الدول العربية مجتمعة. فشعرت بالهم والغم. الاقتصاد الإسباني هو أقل قوة بكثير من اقتصاد دول أوربية أخرى ولكنه يفوق في قوته الإنتاجية قوة جميع الاقتصاديات العربية. لا يفصلنا عن إسبانيا إلا بحر يسمونه البحر الأبيض المتوسط. بحر عبرناه يوما إلى الأندلس وبنينا أعظم حضارة إنسانية في التاريخ. ولكن أين نحن اليوم وأين الإسبان وبقية أوربا؟.

على الرغم من الحروب والفتن التي عرفها التاريخ العربي الإسلامي منذ بداية الدولة الإسلامية إلا أن أسلافنا العرب تمكنوا من بناء الحضارة وتأسيس مجتمعات ودول مزدهرة وراقية وقوية. فهل نحن نحن أم أننا عرب آخرون. فنحن لسنا قادرين على تجاوز الفتن والاختلافات، ولسنا قادرين على تحقيق أي تقدم ملموس ولسنا قادرين على معالجة بعض مشاكلنا البسيطة. انتصرنا في الحروب الصليبية ولكن انتصارنا لم يدم طويلا فلقد هزمنا الغرب مرة أخرى بدءا بحملة نابليون ونهاية بالاستعمار. وقبل ذلك خضع العالم العربي للأتراك العثمانيين. وكثيرون من العرب قبلوا الحكم العثماني المسلم وتفاعلوا معه ولكن تطورهم الحضاري والعلمي توقف عن التقدم تحت السيطرة العثمانية وبدأ بالتراجع والانهيار. وأقدم العثمانيون المسلمون في نهاية فترتهم على قتل وظلم الآلاف من العرب. فحاربهم العرب وبعضهم تحالفوا مع أوربا لقتالهم. وفرح العرب لخروج العثمانيين من ديارهم ولكن فرحتهم لم تدم طويلا فسرعان ما خضعوا للاستعمار الفرنسي والبريطاني والايطالي. وهكذا تمثل الهم العربي منذ انهيار الدولتين العباسية والأندلسية في الخضوع لهيمنة القوى والدول الخارجية. وقبل خروج الاستعمار الأوربي من العالم العربي أهدت بريطانيا للعرب قبل خروجها أسوأ وأقبح هدية يمكن أن تقدمها أمة لأمة أخرى في التاريخ الإنساني كله. فقبل أن تودعنا بريطانيا وترحل صنعت لنا دولة إسرائيل وتبنت الدفاع عنها عدة سنوات ثم سلمتها إلى الرعاية الأمريكية. إسرائيل هذه أصبحت اليوم أسوأ هموم العرب. فمن دير ياسين إلى صبرا وشاتيلا إلى المذابح الأخيرة في الضفة الغربية. وبعد أن قبلها العرب أقدمت إسرائيل على المزيد من القتل والتدمير. وأمريكا تقدم لإسرائيل كل ما تريد. أمريكا تقول ان إسرائيل إنسانية والعرب متوحشون، إسرائيل ديمقراطية والعرب استبداديون، إسرائيل تستحق الحياة والعرب يستحقون الموت. هذه هي رؤية أمريكا لنا ولإسرائىل. مجموعة من الصحافيين الأمريكيين الذين قدموا إلى السعودية لمناقشة تأثير أحداث 11 سبتمبر على العلاقات السعودية الأمريكية قالوا بأنهم يعرفون أن موقف حكومتهم في دعم شارون هو موقف سيئ، ولكنهم مهتمون الآن بمناقشة أمور ومشاكل أخرى تتعلق بالعلاقات السعودية الأمريكية والعلاقات العربية الأمريكية. فقال لهم أمير سعودي معني بالحوار مع الغرب أن بإمكانهم مناقشة أي شيء يريدون ولكن القضية الفلسطينية لا يمكن تجاهلها أو دفعها جانبا. فإنها القضية العربية الأولى وهي المشكلة الرئيسية التي تواجه علاقة الغرب كله بالمسلمين كلهم. وإضافة إلى همّ إسرائيل فلقد واجه العرب بعد خروج الاستعمار الأوربي هماً آخر تعلق بتحقيق وحدتهم السابقة، وبتطور الخطاب القومي العربي الوحدوي في مصر وبلاد الشام. فالعرب لم يكونوا بحاجة حقيقية إلى خطاب آيديولوجي قومي لتحقيق وحدتهم بقدر ما كانوا محتاجين إلى فهم وإدراك لطبيعة المشاكل والظروف الجديدة التي أصبحت تواجههم. وهكذا فشل الخطاب القومي العربي في أبعاده الثلاثة الوحدوية والثورية والاشتراكية. وأصبح هذا الفشل هماً آخر يضاف إلى الهموم العربية الأليمة. وجاءت الصحوة الإسلامية واستبشر الناس خيرا وبدأت في إيران وانتشرت إلى جميع أرجاء العالمين العربي والإسلامي. وتطورت أحزاب وجماعات سياسية إسلامية كثيرة، ولعبت دورا كبيرا في السياسة العربية والإسلامية ولكنها أدت في النهاية إلى زيادة الهموم والمشاكل العربية. ودخل العراق مدعوما من غالبية العرب بحرب ضروس ضد إيران، وبعد خروج السوفيت من أفغانستان تحارب المجاهدون فيما بينهم. فبعد أن كان حزب الرحمن يقاتل حزب الشيطان أصبح حزب الرحمن يقاتل حزب الرحمن. فزاد الهم وتمزق الإنسان. وعاد بعض المجاهدين العرب من أفغانستان إلى دولهم ومارسوا أسوأ أعمال التطرف فيها. وأقدمت الجماعات الإسلامية في مصر والجزائر على ذبح المدنيين الأبرياء، وانتشرت ظاهرة التطرف الإسلامي واستفحلت وأصبح الإنسان العربي المسلم حائرا في أمره، فهو يعلم أن تطرف الحركات الإسلامية لا يمت إلى الإسلام بصلة، ولكن الحركات الإسلامية المتطرفة ترفع شعارات براقة لكسب دعم الجماهير. وأصبحت قضية العراق من هموم الإنسان العربي الرئىسية. فلقد أقدم العراق على غزو الكويت عام 1991 وأيدته الكثير من الجماهير العربية مندفعة وراء العاطفة. وامتنعت أمريكا عن ضرب صدام طيلة اثني عشر عاما وتريد الآن القضاء عليه لأسباب ترتبط بخدمة مصالحها في المنطقة قبل أي شيء آخر. وحتى الذين يكرهون صدام فإنهم حائرون في مسألة ضرب النظام العراقي وبعضهم يعارضون ضرب العراق. والإنسان العربي حائر أيضا في أمره عندما يرى محطة الجزيرة في قطر تدافع عن الانتفاضة وعن العراق من جهة وتقيم علاقات ودية مع إسرائيل وتعطي لأمريكا التسهيلات التي تريدها لضرب العراق من جهة أخرى. الأمة العربية المهمومة قد تنفجر قريبا كالبركان ولا أحد يعلم ما هي النتائج.

طيور السماء العربية تغني حزينة. حزينة معنا وحزينة لأجلنا. جزء من همومنا العربية نتجت عن الاستعمار الأوربي وعن الهيمنة الأمريكية التي أعقبته، وعن إسرائىل التي فرضوها على المنطقة. والجزء الآخر جلبناه لأنفسنا بأنفسنا. فبعد فشل الخطاب القومي، والخطاب السياسي الإسلامي الذي تبنته الحركات الإسلامية، ماذا سينجح؟ كلا الخطابين اعتمدا على التعبئة العاطفية المعنوية للجماهير ولم يهتما بمعالجة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية الفعلية. برامجنا التعليمية بحاجة إلى إصلاح وكلنا يعلم ذلك ولكننا لم نتمكن حتى الآن من اصلاحها وتطويرها بالشكل المطلوب. تكاملنا الاقتصادي يحقق منفعتنا جميعا وبالرغم من ذلك فما زلنا غير قادرين على تحقيقه ونكتفي بالدعوة إليه سنة بعد الأخرى! خدماتنا العامة، مستشفياتنا، صناعتنا، نقص مياهنا، بطالة أبنائنا وبناتنا كلها مشاكل تتفاقم وتنتظر الاهتمام والمعالجة. حتى في الإعلام الذي يفترض أن نكون ناجحين فيه بسبب فصاحتنا في اللغة وبلاغتنا في التعبير فإن مجالات اخفاقنا فيه تفوق بكثير مجالات نجاحنا. وعوضاً عن استخدام الإعلام لنقد الذات فإننا نستخدمه للتغني بالأمجاد الماضية وننسى المشاكل والمآسي والهموم الحالية.