المبادرة الأميركية للإصلاح والديمقراطية

TT

يتضح من المبادرة الأميركية الأخيرة للإصلاح والديمقراطية في العالمين العربي والإسلامي، والتي أعلنها وزير الخارجية الأميركي رسميا، أن واشنطن تعتقد أن الديمقراطية والإصلاح هما الحل للمشكلة في الدول العربية والإسلامية، لكن ما هي المشكلة التي تسعى واشنطن إلى حلها من خلال دفع الإصلاح والديمقراطية في العالمين العربي والإسلامي؟

يتضح من السياق الذي تم فيه الإعلان عن المبادرة قبل وبعد صدورها، أن المشكلة التي تهدف وتسعى واشنطن إلى معالجتها من خلال هذه المبادرة، هي مشكلة التطرف والإرهاب، وكذلك مشكلة تفاقم النظرة السلبية للولايات المتحدة في الدول العربية والإسلامية.

فعند الإعلان عن المبادرة في الأسبوع الماضي، أوضح مدير التخطيط في وزارة الخارجية الأميركية، ريتشارد هاس، سبب اهتمام أميركا بموضوع الديمقراطية في المنطقة العربية، وأفاد بأن هناك أفراداً في المجتمعات العربية والإسلامية، لا يتمتعون بفرص اقتصادية ولا فرص للمشاركة في الحياة السياسية ولا يتلقون التعليم الذي يتناسب مع فرص العمل الحقيقية في العالم العصري. هؤلاء الأفراد كما اضاف «يصبحون في بعض الحالات مهيئين لأن يكونوا إرهابيين».. وكذلك فلقد أفادت بعض التقارير الصحفية بأن مبادرة الرئيس بوش الأخيرة، جاءت نتيجة دراسات كثيرة أجريت حول أسباب النظرة السلبية للولايات المتحدة في العالمين العربي والإسلامي. وتتضمن المبادرة دعم برامج محو الأمية وترجمة الكتب السياسية والاقتصادية وتعزيز دور المرأة وتنمية المشاركة السياسية اضافة الى مجموعة كبيرة من البرامج الاجتماعية والاقتصادية الأخرى. وإذا تأملنا في جميع هذه البرامج نجدها برامج تنموية جيدة ومتميزة، وخاصة أن مسؤولا في الخارجية الأميركية أفاد بأن الديمقراطية التي تسعى أميركا الى تشجيعها في الدول العربية والإسلامية يجب أن تحترم التاريخ والتقاليد الدينية لكل دولة، وأن تحقيق ذلك سوف يتم من خلال اختيار كل دولة مستفيدة من هذه البرامج لأجزاء الديمقراطية التي تناسبها وتنسجم مع تاريخها وتقاليدها الاجتماعية والدينية. ومن خلال الاطلاع على هذه الأفكار وعلى برامج المبادرة، يمكننا القول بأنها تدل على وجود رؤية أميركية واقعية وجيدة لمسألة التنمية والتطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي في العالمين العربي والإسلامي. ولو أنه تم الإعلان عن المبادرة الأميركية بوصفها مبادرة تهدف إلى دعم وتعزيز خطوات التنمية في الدول العربية والإسلامية، لقلنا شكراً وألف شكر لمبادرة الرئيس بوش وانتهى الأمر عند ذلك الحد، ولم تكن هناك حاجة لنقاش المبادرة أصلاً، لكن ربط المبادرة الأميركية باهتمام واشنطن بمعالجة مشكلتي التطرف والإرهاب وتفاقم النظرة السلبية لأميركا في الدول العربية والإسلامية، يستدعي التوقف والتأمل والمناقشة. ففيما يتعلق بالتطرف والإرهاب، فإن السير الذاتية للكثير من المتطرفين والإرهابيين توضح أن طبيعة مؤهلاتهم التعليمية وظروفهم المعيشية والمهنية لم تكن هي العنصر الرئيسي الذي يمكن ربطه بأسباب تطرفهم، وأن ما كُتب عن هؤلاء المتطرفين، يؤكد أن الخطاب السياسي الآيديولوجي الإسلامي الذي تأثروا به، وخاصة في أفغانستان، كان هو المحرك الأساسي الذي دفعهم نحو التطرف والإرهاب، ولهذا فإن معالجة مشكلة التطرف والإرهاب في الدول العربية والإسلامية لن تتحقق إلا من خلال توجيه خطاب إسلامي مستنير يعمل على مواجهة ودحض الخطاب السياسي الآيديولوجي المتطرف الذي تتبناه الحركات الإسلامية، ولهذا فإننا نرى مجموعة من الدول الإسلامية وفي مقدمتها مصر والسعودية وباكستان، تعمل على تطوير ونشر هذا الخطاب الإسلامي المستنير. وبالنسبة لمسألة زيادة وتفاقم النظرة السلبية لأميركا في العالمين العربي والإسلامي، فإننا لا نحتاج حقيقة إلى خبير في دراسات الشرق الأوسط لكي يقول لنا بأن سبب تفاقم هذه النظرة السلبية يعود بشكل رئيسي إلى سياسة واشنطن تجاه الفلسطينيين، ولدعم أميركا المطلق لإسرائيل. فإذا كان كره أميركا يزداد في العالمين العربي والإسلامي، كما أوضحت نتيجة استطلاع الرأي حول أميركا الذي أشرفت عليه وزيرة الخارجية الأميركية السابقة مادلين اولبرايت وتم الإعلان عنه في مطلع الشهر الحالي، فإن سبب هذا الكره يرتبط بالسياسة الأميركية تجاه القضية الفلسطينية، وأن هذا الكره المتزايد يشكل أحد أسباب زيادة التطرف والإرهاب ضد المصالح الأميركية في العالمين العربي والإسلامي. وعلى الرغم من ذلك، فإن واشنطن قررت معالجة مسألة كرهها ومسألة التطرف والإرهاب في الدول العربية والإسلامية من خلال الاهتمام بتشجيع وتعزيز الديمقراطية وبرامج الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي في الدول العربية والإسلامية.

ولقد أعلنت الخارجية الأميركية عن تخصيص مبلغ مليار دولار لدعم مشروعات وبرامج المبادرة الجديدة لكن هل يعلم خبراء وزارة الخارجية الأميركية، أم يتجاهلون، حقيقة أنه إذا لم تغير أميركا من سياسة دعمها المطلق لإسرائيل ولم تهتم بمعاناة الشعب الفلسطيني، فإن كرهها في العالمين العربي والإسلامي سوف يزداد ولن ينقص، حتى ولو انفقت واشنطن عشرة مليارات دولار على برامج مبادرتها الجديدة. فإذا كانت واشنطن تعتقد أن هذه البرامج كفيلة وحدها بتحسين صورة أميركا في العالمين العربي والإسلامي، فإنها مخطئة، وان معالجة المشكلة تبدأ بإصلاح وتصحيح السياسة الأميركية في الشرق الأوسط. فالعرب في الأصل ومن حيث المبدأ، لا يكرهون أميركا ولا تزعجهم كثيراً أحادية السيطرة الأميركية في العالم، وهم يعلمون أن امبريالية أميركية في العالم هي افضل مثلاً من الامبريالية السوفياتية السابقة، والكثير من مظاهر الثقافة الأميركية مقبولة عند العرب، كما هي مقبولة عند غيرهم من الأمم، لكن مشكلة أميركا الرئيسية مع العرب هي دعمها المطلق لإسرائيل. وإذا كانت علاقة أميركا بالعرب خلال الأربعين سنة الماضية، مليئة بالمشاكل والأزمات، فإن سبب ذلك هو سياسة أميركا تجاه القضية الفلسطينية. وفيما عدا ذلك، فليس للعرب والمسلمين أي مشكلة حقيقية مع أميركا، فلا توجد عداوة تاريخية عربية ـ أميركية، ولا توجد عقدة الاستعمار بين الطرفين، وأول دولة في العالم اعترفت بالولايات المتحدة بعد استقلالها كانت دولة عربية (المغرب)، وفي بداية العشرينات الميلادية وبعد ان اطلق الرئيس الأميركي ويدرو ويلسون نقاطه الشهيرة التي تؤكد على حرية الشعوب وحقها في تقرير مصيرها، كان الفلسطينيون الخاضعون للانتداب البريطاني عندئذ، يطالبون بالإشراف الأميركي عليهم، وبالرقابة الأميركية لرفع الظلم والاضطهاد الذي كانوا يتعرضون ويخضعون له تحت الاحتلال البريطاني. وكان الموقف الأميركي نحو العرب إيجابياً، أثناء العدوان الثلاثي على مصر، وساعد في إنهاء ذلك العدوان. وعندما كانت الجزائر خاضعة للاستعمار الفرنسي، كان بعض اعضاء مجلس الشيوخ الأميركي بقيادة السيناتور جون كيندي، قبل أن يصبح رئيساً لأميركا، يطالبون باستقلال الجزائر وبجلاء القوات الفرنسية عنها. فماذا حصل بعد ذلك؟ ان دعم أميركا لإسرائيل كان، ولا يزال، هو السبب الرئيسي لتفاقم المشكلة بين العرب وأميركا. وبعيداً عن السياسة وفيما يتعلق بمبدأ الحرية الاقتصادية الذي تتبناه وتدعو إليه أميركا، فإن الإنسان العربي المسلم قد تعود خلال حياته الطويلة على حرية التجارة وحرية ممارسة الحرف. وإذا كانت الرأسمالية الغربية الحديثة قد قامت أساساً على مبدأ «ليسي فير ـ ليسي باسي» (دعه يعمل دعه يمر)، فإن الإنسان العربي المسلم قد عاش هذا المبدأ ومارسه فعلاً منذ أكثر من ألف عام. وفيما يتعلق بالاختلاف الثقافي مع الآخرين، فلقد عالجه الإنسان المسلم في تفاعله التاريخي الطويل مع الغرب ومع الشرق من خلال التزامه بالمبدأ القرآني العظيم (لكم دينكم ولي دين).

وبيت القصيد هنا، هو ان الإنسان العربي في الأصل سواء في فقره أو غناه، في علمه أو جهله، في دينه أو دنياه، في جديته أو لهوه، في سياسته أو اقتصاده، ليس لديه سبب آيديولوجي أو تاريخي لكره أميركا.

وأما الكره الذي نراه الآن، والذي أزعج واشنطن كثيراً، فإنه يتعلق بسياسة أميركا في الشرق الأوسط، وأن هناك تناقضاً عجيباً بين الأهداف الإنسانية لبعض برامج المبادرة الأميركية الجديدة وبين السياسة الأميركية التي تؤدي بطرق مباشرة وغير مباشرة الى ظلم الفلسطينيين وإلى زيادة بؤسهم وآلامهم وتشريدهم.