آخر صورة ساخرة لصدام

TT

ظل صدام حسين مخلوقا سياسيا فريدا ـ جمع في شخصيته بين صفات دون كورليوني ـ الأب الروحي لعصابات المافيا ـ ودونالد دك ـ الشخصية الخيالية في الرسوم المتحركة. فقد ظل دائما قادرا على إظهار بطشه وعنفه وقدرته على البقاء، كما فعل الأب الروحي، كما ثبت دائما ان حساباته مخطئة، كما هو حال شخصية الرسوم المتحركة.

في الوقت الراهن يبدو اننا أمام شخصية دونالد دك. ويمكن للمرء أن يتخيل ما سيحدث لو ان صدام وبدلا من تعنيف الأمم المتحدة والولايات المتحدة بإصدار تقرير يتضمن انه لا يمتلك أسلحة دمار شامل، قرر فجأة القول «يا للهول، لقد وجدنا للتو ثمانية صواريخ من نوع سكود وأربعة براميل تحتوي على مواد كيماوية كانت مخبأة تحت أغطية ما في الطابق السفلي. لم أكن على دراية بمكان وجودها! أرجوكم خذوها بعيدا. أما أنا فقد قمت بقتل الجنرال الذي أخفى تلك الأشياء».

هذا الموقف يمكن أن يتسبب في مشكلة كبيرة لفريق عمل بوش الذي يعد للحرب. فبدلا من ادعائه التام (والمفاجئ) بأنه بريء، ها هو صدام حسين يعزز موقف الولايات المتحدة الخاص بالحرب. لكن هل يعني ذلك ان الحرب بات حتمية؟ لا. ليس بعد. وأنا شخصيا أعتقد أنه ما يزال أمام صدام فرصة أخيرة للخروج من المأزق، وعلى إدارة بوش أن تستعد لمواجهة احتمالات هذه الفرصة، التي أسميها: «لحظة بريماكوف».

كان يفغيني بريماكوف هو المبعوث الروسي وفطحول كي. جي. بي ـ جهاز المخابرات السوفياتي ـ الذي قام بعدة زيارات لبغداد بين عامي 1990 و1991، ساعيا لاخراج صدام من الكويت وتجنيبه الحرب ـ دبلوماسية الاحدى عشرة ساعة التي أصابت ادارة بوش الأب بالجنون. وكان بامكان صدام الاحتفاظ بنصف الكويت لو انه ساير السيد بريماكوف، لكنه لم يقبل المساومة وفي النهاية تلقى ضربة قاضية.

هذه المرة أعتقد اننا سنرى نفس المشهد مرة أخرى. وقبل شن حرب الخليج الثانية ستطير وفود روسية ـ فرنسية أو عربية إلى بغداد سعيا لإقناع صدام بإنقاذ عائلته، والجميع، من الحرب ـ إما بالكشف عن أسلحته أو بالذهاب إلى المنفى تحت حماية عربية أو أوروبية.

لماذا؟ لأن العديد من الدول، وبخلاف حرب الخليج الأولى، لا ترغب في أندلاع الحرب الثانية. وهنا يمكن للمرء التفكير في الأمر. فمصر حصلت على إعفاء من ثلثي ديونها للغرب مقابل اشتراكها في حرب الخليج الأولى. أما اليوم فمصر تشعر بالخوف من رد الفعل الشعبي تجاه الحرب الثانية، كما ان القاهرة ترفض المشاركة فيها. وسورية لا مصلحة لها في حرب الخليج الثانية لأنه قد تكون المستهدف التالي.

تركيا من جانبها حصلت على ثلاثة مليارات دولار لدعمها للحرب الأولى، لكن الحرب الثانية ـ التي ستخنق تجارتها الحيوية مع العراق وربما تلقي اليها بأفواج من اللاجئين الأكراد الذين سيتدفقون عبر حدودها مع العراق ـ ستعود عليها بوجع الرأس فقط.

إيران من جانبها استمتعت برؤية صدام يتلقى الضرب خلال حرب الخليج الأولى، لكن آخر ما يرغب فية التيار المتشدد من الإيرانيين هو الإطاحة بصدام واستبدال نظام ديمقراطي مؤيد لأميركا به.

وكان على المملكة العربية السعودية الاشتراك في حرب الخليج الأولى للمحافظة على بقائها. لكن الرأي العام السعودي اليوم يعارض بشدة هذه الحرب. ونفس الحال ينطبق على الروس والأوروبيين، الذين لا يرغبون بالتأكيد في أن يصبح العراق جزءا من المنظومة الأميركية، بكل المزايا الاقتصادية التي قد تتبع ذلك.

وهناك أيضا أكراد العراق. فمناطقهم تحظى في الوقت الحالي بحماية نظام حظر الطيران الذي فرضته الولايات المتحدة. ونتيجة لذلك، تمكن الأكراد من إقامة دولتهم الخاصة شبه المستقلة في شمال العراق، ومن الحصول على مواردهم النفطية الخاصة. ولن يكونوا أفضل حالا، كما انهم ليسوا راغبين البتة في إقامة نظام جديد «ديمقراطي» في بغداد يسعى لإعادة فرض سيطرته عليهم.

وأخيرا يدرك العالم العربي الذي يهيمن عليه السنة من المسلمين انه لا توجد جماعة من السنة في أوساط المعارضة العراقية التي تدعمها الولايات المتحدة (هذه المعارضة التي تضم حشدا من تعيسي الحظ، الذين لا يمكن لعراق ما بعد صدام أن يعترف بشرعيتهم، والتي ستجلب للولايات المتحدة المتاعب فقط) من يمكن الاعتماد عليه. فهؤلاء في مجموعهم عبارة عن عراقيين من الأكراد والشيعة. ويخشى السنة من العرب من أنه إذا ما أصبح العراق بلدا ديمقراطيا، فإن شيعة العراق الذين يشكلون الأغلبية ـ والذين ظلوا دائما خاضعين لسيطرة السنة من الأقلية ـ سيتولون السلطة، ويحفزون الشيعة في المنطقة من أجل تحدي هيمنة السنة.

لكل هذه الأسباب، تحتاج الولايات المتحدة للهدوء والاستعداد للتعامل مع أي شيء. نحتاج للهدوء بحيث نترك المجال لعملية التفتيش الدولية لكي تؤتي ثمارها ـ على اعتبار إن لدينا حلفاء مترددين بشأن حرب الخليج الثانية، وعلينا ألا نبدو وكأننا محاربون متشوقون بإفراط. كما اننا أيضا بحاجة لما يبرر الحرب إذا كنا نتوقع أي دعم من الحلفاء.

ونحتاج لأن نكون مستعدين للتعامل مع أي شيء، لأنه مع بلوغنا ذروة هذه المسألة، قد تظهر وفود عربية أو أوروبية في بغداد خلال أي وقت وتتوصل لاتفاق مع صدام يتراجع بموجبه عن موقفه أو يذهب إلى المنفى. وحينئذ قد يقبل جانب دون كورليوني في صدام بقول نعم. أو ان دونالد دك قد يعرض علينا مرة أخرى سوء تقديره. وفي كل من الحالتين ستكون هذه هي الصورة الأخيرة الساخرة لصدام.

* خدمة «نيويورك تايمز» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»