الإرث السياسي للرحابنة

TT

في جعبة الانتظار رسالة عمرها اكثر من عام كلما هممت بالاجابة عما فيها تهيبت، لا خوفا، فما ظل في العمر ما يسمح بخوف من ذلك النوع المدمر الذي يتحكم بالعربي من المهد الى اللحد، ولكن تهيبا من خوض غمار معركة لا املك كامل معلوماتها واسلحتها، وما اصدق صاحب الرسالة حين قال «ان البحث فيها يحتاج الى اكثر من دماغ واحد».

انها تتعلق بفيروز، وتراث الاغنية الرحبانية السياسي، فهل كان الرحابنة مؤيدين خلصا لحقبة الانقلابات العسكرية في سورية..؟ وهل صنعوا لها بالفعل عشرات الاغاني خلال سنتين ما بين 1952 ـ 1954 واين هي الآن اشرطة تلك الاغاني..؟

وهل كان لهم التزامهم الحزبي بالقوميين السوريين الذين شكلوا الاغلبية الفاعلة في المشهد السياسي السوري قبل الستينات.

انها اسئلة هامة وخطيرة وقبل محاولة الجواب عن بعضها لنقرأ معا اليوم رسالة الاستاذ حسني الملكة ثم نحاول ان نعمل ادمغتنا للعثور على اجوبة عن الاسئلة والاستفسارات وما لا تسعفنا به الادمغة والوثائق وكلمات الاغاني قد نطلب جوابه من الشهود الاحياء..

عزيزي الدكتور محيي الدين اللاذقاني

هذه قضية فنية سياسية تنبهت اليها منذ فترة ووجدتها تستحق البحث ضمن اكثر من دماغ واحد.

لقد تذكرت فجأة الاناشيد التي كنا نسمعها دائما من اذاعة دمشق وخاصة في مواسم الانقلابات العسكرية وتمكنت بعد جهد من جمع بعضها، وجميعها اغان مميزة لفيروز انتجها الاخوان رحباني لاذاعة دمشق بغزارة تلفت النظر خلال فترة قياسية لا يصعب عليّ تقديرها تماما. فانا اذكر تماما ان اول اسطوانة لفيروز طبعتها شركة صوت الشرق عام 1953 وكانت تحمل على احد وجهيها اغنية «يابا لا لا» وعلى الوجه الآخر «دقت على صدري» وكانت هذه الاسطوانة هي البداية الفعلية للرحابنة على المستوى العام. واكاد الآن ان اكون واثقا ان الاناشيد التي احدثك عنها سجلت للاذاعة السورية في الفترة بين العامين 1952 و1954، ذلك ان اخي الاكبر اهتم بتسجيلها كلها على شريط واحد في عام 1955. فما الذي يجعل هذه الاغاني مميزة؟

انها كلها تمجد بأشعار جميلة والحان حماسية رائعة الروح القومية والعسكرية السورية وتحث رجال الجيش والنساء والرعاة والمزارعين والعمال على النضال والعمل والجهاد وتستنفر بعبارات مؤثرة كل الهمم لبناء سورية واسترجاع امجادها. نشيد لجنود سلاح الطيران وآخر للمشاة وثالث للفرسان وآخر للجيش ثم لفتاة سورية وكثير غيرها من الاناشيد التي تحرك الشعور الاقليمي السوري وتحض على استعادة الامجاد. ولو سنح لك متسع من الوقت ياسيدي واستمعت للاشعار بإمعان فستجد انها كلها تخلو من اي اشارة قومية او عربية او اي رمز لفلسطين التي كان جرحها في ذلك الوقت ما زال ينزف بغزارة، انها قصائد ذات اتجاهات ايديولوجية صارمة وواضحة. لاحظ هنا ان قصائد الأخوين رحباني التي تتحدث عن فلسطين، مثل «راجعون» و«سنرجع يوما الى حينا» قد تأخر ظهورها لعام 1956، والذي عاش فترة الانقلابات العسكرية السورية يذكر تماما كيف كانت هذه الاناشيد تملأ كل ساعات البث من البلاغ رقم واحد وحتى الانتهاء من الامساك بزمام السلطة. انا لا اذكر انني التفت للشعر والكلمات عندما كنت استمع لهذه الاناشيد، فقد كان الاهتمام في تلك الايام انما ينصب على الحانها الحماسية التي تهيئ الاجواء لترقب البلاغات التالية. وعندما استمعت لهذه الاناشيد مؤخرا رأيت فيها علامات استفهام كثيرة.

الملاحظة الاولى: من هو مؤلف الاشعار؟ هل هما «الأخوان رحباني» ام شاعر آخر؟ اذا راجعنا انتاج الأخوين رحباني المطروح في لبنان في نفس تلك الفترة لرأيناه يسير باتجاه مختلف تماما. سنجد اشعارا مكرسة للغزل والتغني بجمال لبنان وحقوله ووديانه وقراه مثل «سمراء مها» و«عدنا رأيناها» و«بلبل غنى بحقلنا» و«ما احلى الرجعة بكير» و«هيك مشق الزعرورة».. الخ.

الملاحظة الثانية: ان لغة الخطاب في شعر الاناشيد هي لغة فريدة من حيث مضمونها التوجيهي الصارم الذي يمتد من نشيد لنشيد بمفردات متشابهة ومعان متقاربة حتى يكاد المرء يتصور ان شاعرا واحدا كتبها جميعا في جلسة واحدة ـ وربما لحنها ايضا!

الملاحظة الثالثة: بصرف النظر عن تقييمك كشاعر للمستوى الادبي لشعر الاناشيد، فانا اعتقد ان هذه الاشعار تشكل علامة مميزة في تاريخ الشعر الوطني الغنائي، بل اكاد اقول انها حادث فريد في تاريخ الغناء العربي من حيث عددها وجديتها الفائقة والتوجيه المحكم الذي تحمله واسلوب تلحينها وكونها صادرة عن جهة واحدة وفي فترة قياسية.

الملاحظة الرابعة: لماذا حظيت المؤسسة العسكرية السورية في الخمسينات بهذه المعاملة الخاصة جدا واعطيت هذه الجرعة الكبيرة من الشحن بالمشاعر الاقليمية وتقديس الروح العسكرية؟ هل لأن سورية كانت في تلك الفترة تحت تأثير مد قومي عربي واضح المعالم، ومن الجهة التي كانت لها مصلحة في ضخ مشاعر قومية اقليمية مضادة؟ ومن الجهة التي قامرت آنذاك على الجيش السوري لتحقيق ذلك الغرض؟ هل الانتماء الحزبي للشاعر او الشعراء هو السبب وراء المحتويات الفكرية اليسارية والقومية السورية الواضحة في كل القصائد؟ هل كان للرحابنة اتجاهات يسارية ـ قومية سورية قوية لهذا الحد في تلك الفترة؟ هل كانوا يعبرون عن رؤيتهم الخاصة ام انهم كانوا ينفذون تعليمات حزبية محددة؟

بالمناسبة انا لست ضد اي اتجاه حزبي ظهر او سيظهر في عالمنا العربي ولكنني اتوق فعلا لسماع جواب على هذه التساؤلات.

حسني الملكة ـ الرياض