غرباء الأرحام

TT

سألت صديقاً عاد مؤخراً من «كان» عن اجمل ما حمل من ذكريات، فروى انه كان يمشي على رصيف «الكروازيت» مسرعاً، عندما استوقفه شاب مقعد على كرسيه، وسأله إن كان في امكانه ان يدفعه قليلاً. وأخذ يدفع، ثم سأل الشاب الى أي مسافة يريد ان يصل، فأجاب بشيء من التمني: «مسافة ما تتحمل قواك». وعاد يسأله إن كان هناك مكان معين يريد الوصول اليه، فقال ان هذه نزهته المسائية. وعندما يتعب يطلب المساعدة ممن يتكرم من المارة ويلهف.

وقال صديقي انه نام ذلك المساء على وسادة السعادة: الشاب امتحن فيه مروءته وهو امتحن في نفسه قواه. وكل امر آخر في اجازته كان تكراراً ورتيباً إلا تلك النزهة برفقة معاق. تذكرت هذه الحكاية عندما قال لي مدير مدينة الامير سلطان للاعمال الانسانية ان الهدف الرئيسي من اقامتها هو تأهيل المعاقين وتشجيعهم على الظهور والمشاركة في الحياة العامة. وكنت اقوم بالمشي اليومي في ملعب النادي الذي انتمي اليه، عندما رأيت، للمرة الاولى منذ انتسابه، صبياً مقعداً يشارك اترابه لعبة كرة السلة. وهزني المشهد. ان اجمل ما يمكن ان يحدث لهؤلاء الاحباء هو الخروج الى الناس. هو التعود على ان يعيشوا حياة طبيعية. هو ان يدركوا ان العاقة الوحيدة في الحياة هي عاقة القلوب، وكل شيء آخر اصابة، بما في ذلك الاصابة العقلية. هؤلاء الذين لم تكتمل فيهم الاجسام ليسوا معوقين. العاهات النفسية هي فقط عاهات. والمعوقون هم مرضى الحسد والنميمة والحقد والانفس السوداء التي لا يخالطها بياض حتى في المشيب. تلك فقط هي العاهات المكروهة والمزدراة والعائشة بالسفه وحده، يفترسها وتفترسه ولا تقتات سواه ولا يقيتها غيره.

اصبح الزامياً في كل مدينة غربية ان يكون لكراسي الاعاقة طريق خاص. على كل مدرج وفي كل سينما وفي كل مطار وفي كل مدرسة وفي كل محكمة وفي كل مطعم او مقهى. وعندما اقوم بزيارة الامير سلطان بن سلمان في مكتبه في رئاسة جمعية المعاقين، اقول له دائماً، هنيئاً لك العمل في مدينة الدعاء. وعلى هؤلاء الاحباء واجب كبير. عليهم شجاعة النفس وعليهم الاستقواء بالارادة وعليهم ان يدركوا ان حقهم في الحياة ضعف حظوظهم منها. والجزء الاهم في كل ذلك هو الاشهار. فعندما كتب طه حسين «الايام» كاد يجعل العمى ميزة. ولم يعد العمى يعني التسكع والتكفف وامتهان تقشيش الكراسي بل اصبح دعوة الى التعلم والكتابة والقراءة والنجاح. او النجح كما كان يصر عميد الادب العربي، الذي حوَّل الكثير من ظلام العينين الى الكثير من انوار الفكر ومصابيح العلم. وطالما اشتهى معاصروه من المبصرين لو كانت لهم بصيرته. وكان اللورد بايرون، شاعر الانكليز، قد حول العرج الى غبطة. فأصبح الاصحاء يقلدونه في مشيته من اجل استمالة انظار النساء. وكان يذهلني في الرسائل التي اتلقاها من الراحل عبد الرزاق البصير، انه يكتب على ورق مسطر، من دون او تنزل كلمة عن سطر او ترتفع. ومن دون ان تلتصق كلمة بأخرى.

في كل معوق قوة مميزة تعوضه عن هفوة الجسم. ويجب على المجتمعات العربية ان تدرب نفسها على دمج هذا الفريق الحيي الخفور. ولها ان تأخذ البادرة وتبذل الجهد، وتدرك انها تمارس بغير دراية او ادراك، تمييزا بشريا غير محمود. والجهل بالشيء يشابه احياناً النية السيئة. فريقان يجب ان يضعا الشجاعة دأباً: المجتمع الذي يبعد هؤلاء الطيبين، والمعاقون الذين يترددون في اقتحامه.