هفوة بوش في فنزويلا

TT

رغم إجادة العديد من العاملين في إدارة بوش للغة الإسبانية الا أن تأمل مواقف البيت الأبيض الأخيرة تجاه ما يحدث في فنزويلا، يشير الى عبارة مألوفة بهذه اللغة تصف الشخص الذي لا يستفيد أبدا من تجاربه ـ أي انه لم يتمكن من استيعابها ـ حتى لو تعرض للتوبيخ والضرب.

وفيما عدا ذلك، كيف يمكن للمرء تفسير قرار الادارة الأميركية الأحمق، للمرة الثانية خلال ثمانية أشهر، بالقاء ثقلها خلف المعارضة السياسية في ذلك البلد المعرض للخطر، في لحظة يمكن لقرار يقضي بالانحياز لطرف ما أن يؤدي الى رد فعل عنيف.

فبالدعوة القسرية يوم 13 ديسمبر (كانون الاول) الماضي لاجراء انتخابات رئاسية مبكرة ـ وهي بالتالي غير دستورية، تكون ادارة بوش قد عرَّضت التوازن الحساس الذي بات ينمو في كراكاس، بعد أسابيع من المفاوضات بين حكومة الرئيس هوغو شافيز ومعارضيها الديمقراطيين، للخطر. فتلك المفاوضات، التي تمت برعاية سيزر غافييرا، أمين عام منظمة الدول الأميركية، اعتبرت أفضل فرص التوصل لحل سلمي للأزمة المتأججة منذ وقت طويل.

لم تمض ثلاثة أيام حتى عدلت ادارة بوش موقفها ودعت لتنظيم استفتاء، وهو ما قد يسمح به الدستور. لكن بدعوة واشنطن الأخيرة فانها تكون قد القت بظلال من الشك حول التزامها بالديمقراطية في تلك المنطقة.

وكانت الولايات المتحدة قد تصرفت بنفس الغموض الجلي خلال شهر ابريل (نيسان) الماضي، عندما اعترفت بشكل سابق لأوانه بحكومة لم تدم كثيرا، كانت قد أطاحت بشافيز في انقلاب مفاجئ، أما موقفها الأخير فلم يكن مجديا أو ذا أهمية.

ويبدو ان حال أميركا اللاتينية سيكون أفضل لو ان واشنطن تتعلم من أخطائها. اذ أن المنطقة تريد من زعيم العالم الحر أن يتحلى بمزيد من الصبر، وأن يبدي رغبة أقل في الاعلان عن ما يريده وما لا يريده. وهي تريد ادارة أميركية تفهم بشكل أفضل انه في أوضاع كتلك التي تشهدها فنزويلا، فان الاجراءات التي تتخذها ـ أو التي لا تتخذها ـ تعني الكثير بالنسبة لأطراف النزاع.

والآن، وبشكل يفوق ما حدث في الماضي، يعد التعامل بصبر مع الديمقراطيات الناشئة أمرا حيويا. فالزعماء الذين انتخبوا اخيرا في دول كالبرازيل والاكوادور بحاجة الى ضمانات بأن تقف الولايات المتحدة الى جانب الديمقراطية، بغض النظر عن الخلافات في الطروحات. لكن يبدو ان ذلك لم يحدث مع فنزويلا، حيث يمكن للافتقار المذهل للحكمة الديبلوماسية في هذه اللحظة الحرجة، ان يكثف من قتامة السحب التي تتراكم فوق القصر الرئاسي بحي ميرافلوريس. فالدعوة لاجراء انتخابات مبكرة أصابت الجميع بالذهول، بمن فيهم بعض العاملين في وزارة الخارجية، حيث قال مسؤول فيها ان البيت الأبيض «تجاوز المنعطف الذي تعيشه البلاد». وأضاف هذا المسؤول ان ذلك الموقف يمكن تفهمه على أية حال باعتباره خطأ بشريا وليس أكثر. مسؤول آخر في وزارة الخارجية قال ان تلك الدعوة كانت متعمدة، وانها جاءت في اطار «عرض» واع لموقف الولايات المتحدة، الذي اعتبر ان فنزويلا تعيش «حالة أزمة شديدة» ظل شافيز مصرا على اعتبارها «عادية». ووفقا لوجهة النظر الأخيرة فان واشنطن عبرت، من خلال دعوتها لاجراء انتخابات مبكرة، فقط عن ما تردد العديد من المهتمين في تلك المنطقة في طرحه. وذلك قد يكون صحيحا.

اعلان البيت الأبيض، الذي صدر يوم الجمعة ثم التراجع عنه بلا خجل يوم الاثنين الذي تلاه، جاء بعد ساعات من اجتماع ممثلي منظمة الدول الأميركية الـ34 من أجل مناقشة طلب الرئيس شافيز الحصول على دعم المنظمة المطلق. وتلك المصادفة جعلت بعض الديبلوماسيين يستنتجون ان واشنطن تريد ممارسة نفوذها، من خلال اسلوب أريد منه الاستباق في كبح جماح المشاعر الداعمه لشافيز. واذا ما كانت تلك هي نية واشنطن، فمن غير الواضح مدى فعالية هذه الخطة.

وبعد قرابة 30 ساعة من المناقشات أصدرت منظمة الدول الأفريقية، في وقت متأخر من ليل الاثنين الماضي، قرارا لمحت فيه فقط بدعمها لشافيز، حيث طالبت بدعم الديمقراطية في فنزويلا «التي يرأس حكومتها شافيز».

ويبدو ان المنظمة، بمصادقتها المبهمة على حكومة شافيز القائمة كأمر واقع، تأمل في أن لا يفسر أي من الطرفين قرارها على انه نصر له، وأن يستخدمه ضد الآخر. وبالفعل فقد كانت المخاطر عالية للغاية الى الحد الذي دفع بالبعض خلال المداولات الى القول انه سيكون من الأفضل لو أن المنظمة التزمت الصمت بدلا من اتخاذ قرار تندم عليه فيما بعد.

لكن وفي ختام المداولات قررت واشنطن توجيه نصيحة لفنزويلا بأن تستفيد من تجارب آخرين في المنطقة. ولم تفصح عن قصدها لكنه كان معروفا: انها تجربة الأرجنتين. فبعدما واجه هذا العام احتمال تدهور الأوضاع بعنف يخرج عن حدود سيطرته، لجأ رئيس الأرجنتين ادواردو دوهالدي للحل الانتخابي، وذلك الاجراء، الذي يسمح به دستور الأرجنتين، ساهم في تخفيف حدة التوتر في ذلك البلد الذي يعاني من مصاعب مالية وسياسية واجتماعية، كما أوضح العديد من المراقبين اخيرا.

على ان هناك اختلافا رئيسيا بين الحالتين، فدعوة دوهالدي في الأرجنتين جاءت من شخص لا يخشى بشكل مباشر نتائج الانتخابات، لأنه ليس مرشحا فيها. أما دعوة الولايات المتحدة فقد جاءت تكرارا لموقف خصوم شافيز، الذين يطرحون علنا مسألة الاطاحة به.

لقد تعرضت ادارة بوش لنقد شديد بسبب ارتكابها لخطأ مشابه قبل ثمانية أشهر مضت. ويبدو ان الأشد قوة يفشل أحيانا في الاستفادة من الدروس.

* خدمة «واشنطن بوست» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»