الاتحاد الأوروبي تجربة وحدوية ناجحة وقدوة رائدة

TT

كان يوم الجمعة 13 ديسمبر 2002 يوما مشهودا في تاريخ أوروبا الحديثة حيث انعقدت في كوبنهاغن القمة الأوروبية وتم مبدئيا قبول عشر دول أعضاء جدد في الاتحاد الأوروبي لينتقل من تجمع الخمس عشرة دولة إلى مجموعة الخمس والعشرين في الفترة المتراوحة بين 2004 و2006.

ليس المهم في هذا التكتل عدد الدول التي يتكون منها، بل ما تعنيه هذه القفزة النوعية من دلالات وإشارات ومؤشرات تقتضي جميعها الاهتمام بها وأخذ العبر منها.

نذكر أنه عندما نشأت الجامعة العربية بالقاهرة في مارس 1945 طبقا لبروطوكول الاسكندرية وكان عدد أعضائها الرواد سبع دول عربية هي مصر، والعراق، والأردن والمملكة العربية السعودية، وسوريا، ولبنان، واليمن، لقيت الترحاب الذي تستحقه لأنها جاءت مستجيبة لتطلعات الشعب العربي إلى التضامن والعمل العربي المشترك، وحتى الوحدة العربية الشاملة التي كان يتوق العالم العربي إلى تحقيقها وما يزال.

لكن بعض المحللين السياسيين استخفُّوا بها وتشككوا في مصداقية رسالتها وصاحوا في وجه عزام باشا أمين عامها الأول: «صفر وصفر وصفر يجمع على كم يا عزام؟». وهؤلاء من نوع السياسيين الذين كانوا يصفون أنفسهم بالواقعيين ويمكن لخصومهم أن ينعتوهم باليائسين المثبطين أو المتسرعين الذين يصدرون الأحكام قبل التأكد من حقيقتها.

كان الشعار الذي رفعه الواقعيون يعبر عن تطلعهم المشروع إلى إقامة مؤسسة عربية مثالية ينبغي أن يتوفر لها ـ بجانب عدد الأعضاء الذين كانوا يريدونه أن يكون أكبر وأوسع ـ محتوى ذو حمولة قادرة على تطوير الجامعة الناشئة إلى أخرى أقدر على العطاء وأجدر بتحقيق الآمال المعلقة عليها.

أما عندما تكونت المجموعة الأوروبية بدءا من سنة 1952 وانضمت إلى اتفاقياتها الاقتصادية أعداد تُعَدُّ على رؤوس الأصابع من دول أوروبا الغربية فقط تراوحت بين 6 فـ 9 لتتدرج إلى 12 فمجموعة 15، فإننا لم نسمع أن سياسيا رفع في وجهها مثل الشعار الذي رفعه أولئك الواقعيون العرب في وجه عزام باشا، لسبب وحيد هو أن المجموعة كانت لها منذ البداية أهداف محدودة وطموح واحد محصور في ربط شبكة اقتصادية بين الدول الأعضاء تعمل لإقامة سوق اقتصادية مشتركة.

ومنذ نشأة المجموعة الأوروبية ببروكسيل كانت البداية بالانخراط في اتفاقية الفحم الحجري والصُّلْب التي أبرمتها المجموعة الصغيرة سنة 1952 بباريس، وتلتها معاهدات روما التي تأسست بمقتضاها سنة 1958 المجموعة الاقتصادية الأوروبية، والمجموعة الأوروبية للطاقة النووية.

نسي الأوروبيون في مرحلة النشأة، السياسي، والأمني، والتحالفي العسكري، وركزوا على الأمن الاقتصادي فقط. وهذا بينما كانت الجامعة العربية لا تفكر إلا في الجوانب التي نسيتها أوروبا أي قصدت أن تنساها.

وكانت المعاهدات الاقتصادية تنفَّذ بكامل بنودها من جانب الدول الأوروبية التي تنخرط فيها، بينما كانت الجامعة العربية تطبق بنود ميثاقها القاضي بأن «قرارات» مجلس الجامعة لا تصبح نافذة إلا بإجماع الدول الأعضاء، مما يعني أن «القرارات» لا ينفذها إلا من يقبلها. وكان البعد الاقتصادي في مداولات الجامعة العربية غائبا عن مداولاتها، بينما كان في مداولات المجموعة الأوروبية الحاضر الوحيد الذي لا شريك له.

وعلى ذلك كان من بين مفارقات المجموعتين العربية والأوروبية أن اجتماعات الأولى نشأت وهي تشكل ناديا للدردشة، بينما كانت اجتماعات الثانية تشكل فضاء للقرار النافذ الملزِم.

لقد أسفرت قمة كوبنهاغن توسيع دائرة الاتحاد الأوروبي بقبول انخراط 8 دول من أوروبا المركزية (أو الوسطى) وأوروبا الشرقية هي: بولونيا، وهنغاريا، والشيك، وليتوانيا، وإيستونيا، وسلوفاكيا، وسلوفينيا، وليتونيا، وبإضافة دولتين هما قبرص، ومالطا، على أن تلتحق هذه العشر بالاتحاد في فاتح مايو سنة 2004، بينما تلتحق دولتان أُخْرَيان هما رومانيا وبلغاريا خلال سنة 2007. أما تركيا فقد حصلت بعد إلحاح كبير على قرار يقضي بفتح المفاوضات معها خلال سنة 2004 بشرط أن تُدخِل إصلاحات ديمقراطية على نظامها ومن بينها أن لا يبقى الجيش المؤسسة المهيمنة على الحكم والنظام.

ولهذا الحدث الكبير أكثر من دلالة: فهو يجمع في نطاق الاتحاد كلا من أوروبا الغربية وأوروبا الشرقية بعد أن فصل بينهما وفرقهما الستار الحديدي طيلة أربعين سنة عندما أصبحت أوروبا الشرقية تابعة للاتحاد السوفياتي ومتأثرة بمذهبه، ومطبوعة بعقليته، وموشومة بتربيته. وقد كان لانفصام عُروة أوروبا بين غربية وشرقية عواقبه الوخيمة لأن أجيال كل منهما تربت على كراهية نظيرتها.

ولأن أوروبا ستصبح موحدة في رابع مايو سنة 2004 فقد أُطِلق ـ بعد اجتماع قمة كوبنهاغن على هذه القمة التاريخية ـ اسم «قمة توحيد أوروبا» بدلا من «قمة توسيع الاتحاد الأوروبي» كما كان يقال عنها قبل عقدها والتأكد من نجاحها وإفضائها إلى ما انتهت إليه.

وباحتواء الاتحاد خمسا وعشرين دولة سيصبح فضاء أوروبا يضم 450 مليونا من السكان. وسيتجاوز هذا الرقمَ بانخراط تركيا المتوقع، التي سيصل تعداد سكانها في نصف هذا القرن إلى 100 مليون نسمة. وبذلك يقفز عدد سكان الاتحاد إلى ما يزيد على نصف مليار من البشر، ويصبح أكبر من حجم الولايات المتحدة السكاني، ويحتل الرتبة الثالثة في الفضاء العالمي بعد الصين والهند من حيث الحجم الديمغرافي المرشح للارتفاع.

لقد حيَّا بحرارة فائقة الرؤساءُ في قمة كوبنهاغن هذا الإنجاز العظيم، وقال عنه الوزير الأول الدنماركي (رئيس القمة): «في سنة 1989 أسقط رجال شجعان جدار برلين. ورفضوا أن يقبلوا الواقع المفروض على أوروبا القاضي بتجزئتها إلى معسكرين. أما نحن اليوم فقد أعطينا ـ بعد هذه القمة ـ الحياة لآمال أولئك الشجعان». ثم أضاف يقول: «إلى الأعضاء الجدد أوجه عبارات الترحيب بهم في أسرتهم الواحدة: الاتحاد الأوروبي». ثم تتابع على منصة القمة رؤساء دول أوروبا الخمس عشرة، ليؤكدوا على أهمية إنجاز القمة التاريخية، ويشيدوا بقرارها، ويبرزوا أنه قرار واعد بعظمة أوروبا التي لم تبلغ في تاريخها وطيلة العهود السابقة ما وصلته في يوم 13 دجنبر التاريخي».

إن الاتحاد الأوروبي يتميز في مرحلته الراهنة بأنه أقوى تجمع اقتصادي عالمي لم تصل شأوه حتى الولايات المتحدة الأميريكية بالرغم من أنها تُعتبر القوة العسكرية العظمى والقطب الأول في العالم. وستعرف أوروبا بعد اتساعها ازدهارا اقتصاديا أكبر في ظل العولمة التي ستجعل من فضائها سوقا اقتصادية ذات حجم كبير، مما سيوفر للاتحاد الأوروبي حظوظ تنافس أقوى مع الولايات المتحدة الأميريكية ويجعل هذه الأخيرة تحسُب ألف حساب لقوته الصاعدة.

هذه القوة الصاعدة لا تكمن عظمتها لا في عدد مكوِّناتها ولا في إمكاناتها المادية فحسب، بل تلتقي كلها ـ وهذا هو روح قوتها ـ على القيم الحضارية الغربية التي أصبحت تميزها عن القوات الدولية المعاصرة الأخرى، ولا أعني بها قوة الصين التي ما تزال لم تجتز عتبة الفقر، ولم ترْقَ بعدُ إلى تَسنُّم قمة التقدم، بل أقصد بالأخص قوة الولايات المتحدة الأميريكية التي أصبحت إدارتها الجمهورية الجديدة تنأى بها كل يوم أكثر عن هذه القيم وتدخل في متاهات الانحراف والتنكر لها.

ينبغي أن نذكر أن الفكر الأوروبي الوحدوي قرر منذ البدء أن يقيم نظام الاتحاد الأوروبي، وليس نظام الوحدة الأوروبية، تجنبا للارتجال المؤدي عادة إلى إجهاض المشاريع. وطمح فقط إلى تحقيق أوروبا الاقتصادية مرجئا التفكير في إقامة أوروبا السياسية إلى حين أن تصبح ثمارها دانية القطوف. وهذه العقلانية هي التي افتقدتها مشاريع الوحدة العربية التي مُنِيت جميعُها بالإخفاق للأسف الشديد.

وقد سبق لي سنة 1989 أن أصدرت كتابا باللغتين العربية والفرنسية بعنوان: «نظرات في القضية العربية» دعوت فيه الجامعة العربية إلى إعداد خطة لتحقيق الاتحاد العربي (على غرار الاتحاد الأوروبي) تبتدئ إنجازاته بخلق شبكة اقتصادية عربية تصبح قاطرة الاتحاد العربي، على أن تأخذ الخطة العبرة من فشل مشاريع الوحدة العربية، وتَتَّبِعَ خطوات الاتحاد الأوروبي لأن تجربته تجري بنجاح. وذكرت في هذا الكتاب ما أسميته بأبجديات الوحدة التي أوصلتُها إلى عشر قواعد أساسية لا يمكن إقامة أي تجمع بدونها. وهي الأبجديات التي لم تأخذ بها مشاريع وتجارب الوحدة العربية وكان فقدها هو سبب إجهاضها جميعها.

وما أزال مؤمنا بأن خطوات إقامة تجمع عربي كبير تنطلق بالخطوة الأولى: إقامة وحدة اقتصادية تقوم على سوق مشتركة، ووحدة العملة النقدية، ونظام جِبائي موحد، وحرية التنقل بين أعضاء الاتحاد بإسقاط التأشيرات في المرحلة الأولى لتنتهي إلى مرحلة الاكتفاء بورقة الهوية عوضا عن الجوازات، مع الأخذ بكل تدبير عملي محسوس من شأنه أن يُشعِر الشعب العربي أنه يمضي نحو المواطنة الواحدة ولو كانت لا تتم إلا في المدى البعيد.

وكل من سار على الدرب وصل كما قال ابن الوردي في لاميته. فهل سيسير العرب على هذا الدرب؟