أمريكا تؤجل الحرب في العراق

TT

يتواصل الإصرار الأمريكي على ضرب العراق، وتتزايد مع هذه الرغبة القتالية الاستعدادات العسكرية والسياسية لتنفيذ هذه المهمة الاستراتيجية الرامية في ظاهرها إلى تجريد العراق من أسلحته ذات الدمار الشامل، والإطاحة بالرئيس صدام حسين والقضاء على نظامه القائم في بغداد، وتستهدف هذه الاستراتيجية في حقيقتها تبديل معالم الحياة الدولية على ركائز القوة الفعلية في الأرض التي تعطي بالوصول إلى نتائجها، أمريكا الحق في حكم العالم.

غير أن هذه الرغبة الأمريكية الرسمية من الحرب اصطدمت مع كثير من المعوقات في الداخل، بعد أن فسرت هذه الرغبة في الحرب من قبل رجال في الكونجرس وآخرين في الصحافة ومفكرين من اساتذة الجامعات.. بالحرب غير المبررة، خصوصاً بعد صدور قرار الاعتراف العراقي، وقالوا جميعاً بأساليب مختلفة بأن الهدف من هذه الحرب ضد العراق يرمي إلى إلهاء الشعب الأمريكي عن معاناته من التردي الاقتصادي دون أن تضع الحكومة الامريكية في حسبانها التكلفة الباهظة للقتال التي تزيد من معاناة الناس في حياتهم ومعاشاتهم اليومية بعد أن قام احتمال استمرارها لسنوات طويلة استناداً إلى كثير من تقارير الخبراء العسكريين الأمريكيين التي تنظر الى الحرب من زاوية الرؤية الاستراتيجية.

حكم هذه الرؤية الاستراتيجية العسكرية وثائق وصلت إليهم من الموساد الإسرائيلي الذي استطاع بعض من رجاله التسلل إلى بغداد، واكدوا في تقاريرهم إلى رؤسائهم في تل ابيب، بأن الحكومة العراقية وضعت خططاً ودربت ابناء من الشعب تحت مظلة الحرس الجمهوري على قتال الشوارع بهدف تحويل الحرب من القتال بين جيشين غير متكافئين في القوة الى المجابهة بين الجيش الامريكي وبين الشعب العراقي، والخطورة البالغة لهذه المعلومات التي حصل عليها الموساد في تل ابيب وأبلغها لواشنطون التي سارعت بإرسال داج فايت، أحد المسؤولين في وزارة الدفاع، في زيارة خاطفة إلى إسرائيل ليوم واحد ليناقش تلك التقارير مع قيادات الموساد، وجاء في تقريره بعد عودته الى واشنطون والمرفوع الى البيت الأبيض حتمية تأجيل الحرب مع العراق حتى لا تقع امريكا في مستنقع قتالي يشبه المستنقع القتالي الذي وقعت فيه بفيتنام، وحذر في تقريره من تكرار نفس نتائج فيتنام في العراق بكل الأدران الاجتماعية الخطيرة في داخل الوطن الأمريكي.

بعد اطلاع الكونجرس على تقرير نائب وزير الدفاع داج فايت، جدد موقفه المعارض للحرب في العراق، على الرغم من القرار الذي اتخذه في وقت سابق بتخويل الرئيس جورج بوش في اتخاذ قرار الحرب ضد العراق، ويؤكد فقهاء القانون الدستوري من الأمريكيين بأن المعارضة المتصاعدة من داخل الكونجرس ضد الحرب في العراق، تلغي القرار الذي اتخذه في تخويل الرئيس جورج بوش في اتخاذ القرار بالحرب، وبذلك فإن بدء القتال بالعراق يحتاج إلى موافقة ثانية من الكونجرس.

يؤكد هذه الحقيقة الدستورية التي أعلنها فقهاء القانون الدستوري من الأمريكيين، الضغط المتزايد من الكونجرس على الرئيس جورج بوش الذي لم يستطع ايضاح اهدافه من الحرب في العراق او تحديد سبل الخروج من المستنقع القتالي به. وامام هذا العجز في تحديد كيفية الدخول في الحرب بالعراق والخروج منها، تعهد الرئيس جورج بوش امام الكونجرس بالتحلي بالصبر والالتزام بالمنطق العقلي والتروي في اتخاذ قرار الحرب والالتزام بعدم اتخاذه إلا بعد التشاور مع الكونجرس والاتفاق مع حلفائه في العالم على الحرب ضد العراق.

يذهب بعض أصحاب الرأي في العالم إلى وصف هذا الموقف الأمريكي الجديد بتأجيل الحرب ضد العراق بالخدعة التي تستهدف تخدير العراق بابتعاد الحرب عنه حتى تقلل من استعداداته الشعبية لحرب الشوارع في المدن العراقية ضد جند امريكا بعد دخولهم اليها، حتى إذا قلت هذه الاستعدادات فاجأت واشنطون بغداد بالضرب المكثف لها. ويقوم مع هذا الرأي رأي آخر من الجامعات الأمريكية الثائرة على قرار الحرب لافتقاده الشرعية الدستورية طالما كانت الحرب غير دفاعية عن ارض الوطن الامريكي، ويطالب أصحاب هذا الرأي بإلغاء الحرب ضد العراق وليس بتأجيلها لتعديها في حالة قيامها على ارض الوطن بدلا من الدفاع عنه لأن اندلاعها سيؤدي إلى حرق أمريكا بالنيران الاقتصادية في نفس اللحظة التي تحرق هذه الحرب اقليم الشرق الاوسط بالنيران العسكرية، ولما كان لنا ولغيرنا من الدول مصالح حيوية عليا مع هذا الاقليم، فإن النيران العسكرية التي سنفرضها عليه ستمتد الى كل ركن من أركان المعمورة بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية. ويقول اساتذة القانون والاقتصاد بالجامعات الأمريكية ان هذه الحرب محرمة لثلاثة أسباب: تكاليفها المالية العالية، والخراب الاقتصادي الدولي الناتج عنها، وترتب عليهما السبب الثالث الرفض العالمي لها.

تحدث عن هذه الأسباب الثلاثة الباحث الاستراتيجي سكوت فيل، الضابط السابق بالجيش الأمريكي الذي لا يزال يحتفظ بصلات حميمة مع وزارة الدفاع «البنتاجون» بحكم موقعه الوظيفي الحالي رئاسته لمركز ابحاث أدوار القوات العسكرية الامريكية، وجاء حديثه امام الكونجرس الذي ذهب فيه إلى القول بأن التكلفة القتالية للحرب العراقية تقترب من مائة ألف مليون دولار، وامريكا في حالة اقدامها على الحرب فإنها ستتحمل هذه التكلفة وحدها ولن يتحملها معها أحد من الدول لأنها جميعاً رافضة هذه الحرب ضد العراق مما يجعل من وطأة الخراب الاقتصادي الدولي يقع بوطأته على امريكا اكثر من غيرها، وتزداد حدة هذا الأثر عليها في ظل أوضاعها الاقتصادية المتردية، وأكد بأن بقاء الجيش الأمريكي في العراق يحتاج الى مدة زمنية تتراوح ما بين خمس إلى ست سنوات، مما يضاعف من تكلفة الحرب ضد العراق بجانب مواجهة الجند الأمريكيين لخطر الموت في الليل أو النهار طوال مدة بقائهم بالعراق.

تطرق سكوت فيل في حديثه إلى الكونجرس عن الأموال المستحقة الدفع عن العراق من بعد تخليصه من نظام الحكم في بغداد، وحدد هذه الديون العراقية المواطن العراقي سنان الشبيبي بعشرات الآلاف من ملايين الدولارات الأمريكية ومثلها من الملايين لإصلاح الخراب بالعراق الناجم عن الحرب، وأكد على أخذ أقوال سنان الشبيبي على محمل الجد باعتباره خبيراً اقتصادياً وشغل العديد من المناصب الاقتصادية المهمة في العراق قبل انشقاقه على السلطة في بغداد وانضمامه الى المعارضين لها في الخارج، وأعلن سكوت فيل ان هذه المبالغ الخاصة بالديون وإصلاح الدمار بالعراق تضاف إلى تكاليف الحرب الباهظة والخراب الاقتصادي الدولي لتنزل مغبتها على رأس الولايات المتحدة الأمريكية.

فجع رجال الكونجرس من تكاليف الحرب التي حدثهم عنها سكوت فيل، وعلق عليها باستهزاء السيناتور الديمقراطي جوزيف بيدن المعارض للحرب بقوله «مرحباً بالحرب»، وأصبح الموقف بالكونجرس معارضاً للحرب ضد العراق في الوقت الذي يواصل فيه البيت الأبيض الاستعداد للحرب، وهو وضع يصعب معه تحديد إن كانت الحرب مؤجلة كما يطالب الكونجرس أو معجلة كما يسعى البيت الأبيض.