الهوية العربية المفقودة

TT

يتعثر لساني لترديد ما تمناه رجل عربي عندما اطلق زفرة طويلة وعميقة قائلا «ليت الاستعمار يعود من جديد لأن احوال العرب آنذاك ستكون افضل بكثير من احوالهم اليوم». واذهل كما يذهل الكثير من العرب عندما نسمع مثل هذه العبارات المحبطة.

هذا بلا شك شعور المحبط الذي لا يملك سوى تفريغ احباطه في الاتجاه المعاكس، لأن ما قاله يخوفنا من فقدان لا رجعة فيه للهوية العربية، التي اصبحت في مأزق حرج يوما بعد يوم. فالهوية العربية الاسلامية التي نعتز بها، هي جواز سفرنا الذي يحمل الصورة التي تعرِّف الآخرين بهذا الانسان الكريم، الشهم، النبيل، العادل، الشجاع، المتسامح. هذه الهوية تمر بأصعب الظروف منذ حوالي سبعة قرون.

ويجدر بنا القيام بمراجعة شاملة للمحطات والاحداث التاريخية الهامة التي غيرت مجرى تاريخ الهوية العربية والاسلامية. وما ان يتحدث فيلسوف غربي او غيره عن العرب إلا ويتطرق للاسلام كهوية تميز الشعوب العربية الممزقة عن غيرها من شعوب الارض، لذا يعد الاسلام الهوية الاكثر شمولية للتعريف بالعرب الذين عاشوا تحت سيطرة وظلال الاستعمار منذ الغزو المغولي لبلادهم في 1258، وتدميره لهوية ثقافية وعلمية تركها لهم اسلافهم الفاتحون للارض.

وبالعودة الى الوراء نجد ان الاتراك لعبوا دورا اساسيا في تاريخ العرب منذ 1412 ـ 1918 فالتعليم النظامي لم يتوافر في العالم العربي، بل عمل الاتراك على تجفيف العالم العربي من مفكريه، لانهم كما اعتقدوا انهم يشكلون خطرا على خلافتهم وسيطرتهم على معظم دول العالم العربي آنذاك، لذا قاموا بتهجير المهنيين والحرفيين والمفكرين الى الاستانة للاستفادة منهم وابعادهم عن بؤر التأثير السياسي والديني والاجتماعي والحرفي والمهني في بلدانهم.

لم يعد للعرب التفكير الذاتي والحماس والشجاعة والاحساس بالمسؤولية تجاه انفسهم، ما جعلهم يتداعون تدريجيا في الساحة العالمية امام المتغيرات التي اثَّرت سلبا في هويتهم، بحيث صورتهم وسائل الاعلام الغربية ارهابيين.

والمشكلة التي لا يعيها العرب والمسلمون هي انهم ساهموا في تشويه هويتهم من خلال محاكاة اعلامهم للاعلام الغربي لأنهم لا يدركون العواقب التي بررت في الآونة الاخيرة. فاعلامنا لا يتمتع بهوية مستقلة تعتمد على التحليل الدقيق لمجريات الاحداث، بل تنقل معظم الفضائيات العربية الاخبار ضدنا ومن اعلامنا.

لقد فقد العرب الاستمرارية الثقافية التي تعد اساسا في استراتيجية الفكر العربي بسبب تمزقهم، بحيث اصبحوا دويلات صغيرة في ثقلها السياسي والاقتصادي بالرغم من الجغرافية الكبيرة للوطن العربي. واذكر احد قادة السياسة في الولايات المتحدة الاميركية عندما ظهر في احدى محطات التلفزيون الاميركية في برنامج تلفزيوني تحليلي للوضع في العالم العربي بعد غزو العراق للكويت، حيث قال: «لم تعد كلمة الوطن العربي الكبير تعني لنا الشيء الكبير، فالغزو العراقي للكويت اثبت ان العرب فقدوا هويتهم، ولم يعد هناك ما يسمى بالعالم العربي».

ولو نظرنا للتحالفات العربية قبل وبعد الغزو لرأينا التناقضات حول تعريفنا لقضايا عديدة في التكتلات العربية التي يركز جلها على الجانب الامني من غير اعتبار للجوانب الهامة الاخرى التي توحد العرب وتعيد لهم هويتهم المفقودة.

واليوم نرى تمزق العرب والمسلمين وعدم قدرتهم على صنع سياسة موحدة لخدمة قضيتهم الكبرى «قضية فلسطين» التي برز ضعف السياسة والهوية العربية فيها. فالبعض مع حمل السلاح لتحريرها، والبعض الآخر يعوِّل على الحل السياسي الهزيل، والبعض الآخر يتفرج بحزن على ما يحدث للعرب في فلسطين من مجازر فاقت تصور العقل البشري.

ولقد نجحت القوة الاوروبية والاميركية في تشتيت العرب والمسلمين، فقد قال الدبلوماسي البريطاني السير انتوني بارسون: «ان الاوروبيين نجحوا في حماية مصالحهم الاستراتيجية في العالم العربي من دون الاهتمام بشعوبه». وهذا الوضع الذي صنعه الاوروبيون والاميركيون يجعلنا نحس اليوم بعقدة الذنب نحو مجتمعاتنا.

وتعاني الشعوب العربية من الاحباط الذي نراه جليا في الحكومات العربية التي تعيش بمعزل عن شعوبها، بل وتراقب الهم الغربي الذي اصبح مصيرها مرتبطا به قبل ارتباطها بهموم ومصير شعوبها، فالحكومات والشعوب كل في مفترق طرق يفتقدان لهوية سياسية واجتماعية تجمعهما لمواجهة التغيرات العالمية التي تحوي مكامن خطر اصبح اشبه بالاسطورة منه بالواقع. ومهما حسنت نوايانا تجاه الغرب فإن نواياهم وانطباعاتهم الاستعمارية القديمة لم تتغير، لكنها تلبس ثوبا جديدا لاخفاء نواياهم الاستعمارية القديمة ضدنا، لان الاستعمار المباشر لا يتواكب مع التطور الفكري للشعوب العربية والاسلامية التي اصبحت اكثر فهما وادراكا لاهداف الاستعمار وواقعها المؤلم.

والعبث بسمعة العرب والمسلمين وطمس هويتهم الحقيقية الانسانية المشرقة عبر التاريخ من قبل الغرب، وبالتحديد في الولايات المتحدة الاميركية، لا يخدم مصالحها، بل يزيد من الصدع والتباعد بين العالم العربي، ومن تسمي نفسها قائدة العالم الحر تحاول تجريد مواطنيها المتحدرين من الاصول العربية والاسلامية من اساسيات الديموقراطية التي قامت عليها منذ اكثر من قرنين، بحيث اصبح الجهاد ضد الغاصب الاسرائيلي في فلسطين ارهابا بالنسبة للولايات المتحدة التي تعمل جنبا الى جنب مع العدو الصهيوني لاجتثاث النضال العربي في فلسطين، فلقد استثمرت الحادي عشر من سبتمبر 2001 لتمرير سياستها الاستفزازية ضد كل العرب والمسلمين، وتحرف مصطلحات متعارفا عليها في المنظمات والمنابر الدولية حول تعريف الجهاد والنضال والتحرر من الاستعمار، لتصبح كلها مصطلحا واحدا يصف العرب والمسلمين بالارهاب. فقبول العرب والمسلمين بضرب العراق وتحالفهم مع الولايات المتحدة لتحقيق ذلك، سيزيد من الفجوة السياسية والاجتماعية والاقتصادية للعرب والمسلمين، لذا ادركت بعض القيادات العربية الحكيمة وعلى رأسها السعودية خطر التحالف غير الشرعي، وحذرت الولايات المتحدة من مغبة ضرب العراق من غير الرجوع للشرعية الدولية. لأن ذلك سيحدث فراغا سياسيا فيه مما يهدد الامن العربي بأكمله، فالوضع الآن في المنطقة يختلف عنه عندما غزا العراق الكويت في 2 اغسطس 1990.

وللخروج من هذا المأزق الصعب فإن الحلول تكمن في قيادات وشعوب المنطقة، وذلك باعادة صياغة السياسة الخارجية لكل دولة من منطلق قوي يقوم على الوضوح، والمشاركة الحقيقية لصناع القرار من الشعب في وضع هذه السياسة. العرب نبلاء وكرماء ولهم تاريخ حافل يشهد على ذلك، فلا داعي للتنازلات التي لا تخدم مصالحنا. والتنازلات التي قدمها العرب لاسرائيل في ما يسمى بمؤتمر مدريد للسلام ما هي إلا نقاط ضعف تزيد من ضعف هويتهم، بحيث لم تبق لهم من اوراق اللعبة اي ورقة رابحة سوى الجهاد والنضال الذي يستنزف العدو الصهيوني. اما تنازلات العرب للولايات المتحدة فإنها تعد امرا خطيرا يستوجب الانتباه، والشعوب العربية مطالبة بالنظر لقضايانا بواقعية وعقلانية بعيدا عن الشعارات الرنانة، فالعاطفة والتشنج لا يحلان مشاكلنا، بل يزيدانها تعقيدا. واما ثقة الشعوب في قياداتها العربية والاسلامية فإنها تواجه منحدرا ومنحى خطيرا يستغله الغرب ضد الطرفين، لذا يتطلب الوضع تضييق الصدع وتفادي كل ما يزيد من الفجوة التي لا تقوي العلاقة بين الحاكم والمحكوم. فالقيادة والشعوب يواجهان نفس التحديات، بحيث لا يمكن الفصل بن قائد السفينة وركابها في بحر تتاسبق امواجه لترتطم بها وتهدد حياة جميع من عليها.

ونسمع اليوم الاتهامات التي يوجهها الاعلام الغربي الجائر وبعض صناع القرار في الولايات المتحدة الاميركية لبعض القيادات العربية التي لم ترضخ لمطالبهم لانها تزيد من الفجوة العربية والاسلامية، فلقد اتهموهم كذبا بتمويل ومساندة الارهاب، وهددوهم بالتعويضات المالية وبتحويل دولهم الى دويلات صغيرة. كل هذه الضغوط كانت ردود فعل الولايات المتحدة على عدم دعم القيادة السعودية الحكيمة للولايات المتحدة الاميركية لتوجيه ضربة عسكرية ضد العراق تحت مظلة القضاء على الارهاب.

ويجب على الامة الوقوف مع قيادتها التي اتخذت القرار الحكيم بعدم السماح بانطلاق اي عدوان ضد العراق وافغانستان من اراضيها.

* أستاذ مساعد للادارة والتسويق بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن

[email protected]