2002: عام آخر

TT

تدرس كليات الصحافة الغربية منذ نشوئها، شيئاً، او قاعدة، تسمى الـW الخمسة: متى، لماذا، من كيف واين، كل هذه اسئلة واستفسارات ومحاولات للاجابة. ولكن ليس هناك، في هذه القاعدة الذهبية، حرف جزم واحد. الحسم ممنوع في المهنة، خوف الوقوع في الخطأ. ثمة امثلة كثيرة، لكنني اعطي على الدوام نموذج النبأ الذي بعث به احد المراسلين العرب الى صحيفته جاعلا عنوانه: «لن يزور محمود رياض بيروت»! وفي اليوم التالي صدرت الصحيفة فيما كان الامين العام الراحل للجامعة العربية يهبط في العاصمة اللبنانية.

حاذروا ادوات الجزم. ولكنني عندما اصغي الى الزملاء على القنوات العربية «يحللون» الاحداث ويستقرئون المضاعفات، اراهم دائماً يخبطون على الطاولات ويجزمون ويحسمون، لا. لن. لم. ليس. ابدا. ثم، بكل تواضع هذه الاضافة، او هذه اللزومية: «اسمح لي ان اؤكد لك...».

العام 1860 قال ابراهام لنكولن، اهم رؤساء اميركا، ان «ولايات الجنوب لديها من حسن السليقة ما يمنعها من طلب الانفصال عن الاتحاد». وبعد ذلك بخمسة اشهر بدأت حرب الانفصال، او الحرب الاهلية. وفي العام 1911 اعلن المارشال فردينان فوش «ان الطائرات لعب مسلية لكن ليس لها اية قيمة عسكرية». وكان هذا احد اعظم قادة فرنسا. وفي العام 1939 قال قائد آخر، هو المارشال بيشات «ان الدبابات التي يعتقد البعض انها سوف تقصر اماد الحرب هي في الحقيقة عاجزة بشكل فاضح». ليس تماماً! لعبة الجزم مؤذية وغير ضرورية.

وقد توقفت منذ سنوات عن شراء الكتاب الخاص الذي تصدره «الايكونومست» عن تكهنات العام الجديد. ليس لان فيه الكثير من الجزم بل لأن فيه الكثير من الحذر، وهو مكتوب باللغة التي يخاطبك بها المحامون في بريطانيا: «يجوز ان المسألة ربما تكون الى صالحك الا اذا تبين ان صالحك بالنسبة الى المسألة يقع تحت قانون الظن في مسألة التساوي على قاعدة التفاضل في شواذ القاعدة الا اذا تم تعميم الافضلية نتيجة لما اوضحناه آنفاً في معرض التشديد على انعدام الافضلية نتيجة زوال الاحقية بمرور زمن الموازاة». وقِّع.

العام 2002 كان، في امور كثيرة، امتداداً للعام 2001. احداث كثيرة ولا حسم واحد.

ظل اسامة بن لادن ظلاً مطارداً لا يظهر الا في الشرائط الملونة. فلا هو معتقل ولا هو متحرك. وكذلك اركانه. وظل العراق حربا قاعدة لكن غير قائمة. وظل ياسر عرفات لا اسيراً ولا شهيداً ولا طليقاً. وظلت ايران تنتخب الاصلاحيين وتحكم بالمتشددين. وخرجت اعمال «القاعدة» من الاطار الاميركي لكي تستهدف الاوستراليين في اندونيسيا والفرنسيين في باكستان واليمن. وبقيت الاشياء دون حسم في الجزائر حيث لا يزال القتل هو الخبر. وكذلك بقي الخلاف الجزائري ـ المغربي، وهو اكبر الجروح العربية المكتومة. وظل الاتحاد المغاربي معلقاً بين النزع والموت.

عام من اللاحسم الا حيث تحترم المواعيد الدستورية: غيرهارد شرودر عاد الى زعامة المانيا باكثرية ضئيلة. وجاك شيراك بقي في زعامة فرنسا باكثرية تاريخية. والصين ودعت طقماً من الحكام واستقبلت قيادة جديدة من الشبان. وفي كوريا الشمالية ظل كيم جونغ ايل الظاهرة الاخيرة من ظواهر القرون الوسطى: شعبه لا يعثر على رغيف وهو يتلمظ صلصة الحبار الروسي وتنقل اليه الارغفة من موسكو بطائرة خاصة. حاذروا الجزم. لكن هذا النوع من الامراض البشرية لن يدوم. لن يبقى في امكان رجل واحد ان يقبض على ثروة شعبه ورغيفه وعنقه ايضاً. لن يظل في امكان رجل واحد ان يطلب من شعبه «التأليه» والعبادة فيما لا يمنح هذا الشعب شيئاً سوى العبودية والمجاعة والسجون الرطبة.

حاذروا التنجيم. لكن الامل والحق بالامل ليس تنجيماً. واذا كان بعض الحكام يرفض الخروج من عادات القرون الوسطى، باسم «الثورة»، فان الشعوب هي التي ستفعل.