المثقف والفقير (5)

TT

عبر ما اوردته في حلقات هذه السلسلة، كشفت عن نفسي كشخص يتقلب من جانب الى جانب ومن مبدأ الى مبدأ. وهذا في الواقع ما جعل الكثيرين يصفونني بالمتقلب والمتلون. وهو صحيح. ولكنني لم انقلب على شيء طمعا بشيء او ثأرا لشيء. الآخرون تجاهلوا الأخطاء والعيوب واحتفظوا بولاءاتهم ومبادئهم. نالوا شرف «ثابت المبدأ». انا لا اتمتع بهذا الشرف. المبادئ عندي مثل الثياب يستبدلها صاحبها حسب الجو والصحة والنظافة. هكذا تقدمت الانسانية عبر العصور، الاسلام بدل الوثنية والديمقراطية بدل الأتوقراطية. الشيء الوحيد الثابت هو العزم على رفع منزلة الانسان ورفع الحيف عن المحتاج. هذا هو المنطلق الوحيد الذي لن احيد عنه وكل ما سواه ينبغي ان يركع لذلك.

دعاني الزميل نبيل ياسين للمشاركة في المؤتمر الذي عقده بلندن الجمعة الماضية عن دور المثقفين. حاولت ان اتملص من الدعوة فقلت له انك تعرف رأيي السيئ فيهم، فاتركني جانبا. ولكنه اصر على مشاركتي وما انا ممن يردون طلبا لأحد. ادليت بدلوي.

لم اجد في المثقف العربي ما يستحق الأحترام فعلا. واعتقد ان الشعوب العربية ستكون اسعد حالا لو انها تخلصت من مثقفيها. لقد ضللوها وزجوها في معارك ودهاليز مسدودة لم تدرعلى الجمهور غير المعاناة والشقاء. يكتبون ويطبلون عن النزاهة ولكن ما ان يقع الأمر بيدهم حتى يصبحوا اسوأ من سلفهم فسادا. يتحدثون عن الفقير دون ان يفعلوا أي شيء من اجله. لقد الفوا فيما بينهم مافيا الثقافة، يكتبون وينظمون اشعارا لا يفهمها غيرهم، تماما مثل كهنة المعابد.

يصرون على استعمال لغة وقواعد لغوية وحروف ابجدية لا قدرة للمواطن البسيط عليها. انهم اكسل من ان يحاولوا استنباط شيء جديد يسهل الأمر للأميين وللعلماء والأطباء والتكنوقراط. جعلوا من اللغة العربية لغة سحرة وكهان وخبراء. غدت قدرتهم على استعمالها ميزتهم الوحيدة فحرصوا عليها من المنافسة او التشكيك فيها.

لا الوم المثقف الضعيف من استعمال ادبه وشعره في خدمة السلطان تكسبا للقمة العيش، ولكنني لا افهم لماذا اوغل عمالقة الأدب والفكر العربي في التملق للسلاطين، وكلهم في غنى عن ذلك. الشيء الذي يجهله الجميع ان الفقر مثل المرض. الغني لا يستطيع تفادي الملاريا والأنفلونزة عندما يبتلي بهما الفقراء وينتشر مكروبهما في المجتمع. كذلك الأمر بالنسبة للفقر. تجد ذهنية الفقر تنتقل من الفقير الى الغني. طالما لفت نظري كيف ان الموسرين من ادبائنا وشعرائنا ومفكرينا يتصرفون وكأن الفقر ينتظرهم في ابواب بيوتهم. لا شيء يسد طمعهم، وبالتالي عبوديتهم للحاكم وتجاهلهم للضعيف المعوز.

تحرير الوطن من الفقر تحرير للغني والأديب والشاعر والمفكر من ذهنية الفقر. انه تحرير للفن والأدب. ما الفائدة من ملايينك المقنطرة اذا كان ما تسمعه من موسيقى وغناء كله انين وبكاء؟ ما الفائدة من احاطة نفسك بعشرات الخدم والعبيد اذا كان البؤس هو كل ما تراه على وجوههم؟ ما اللذة في زق نساء ليس بينهن من تجاوبك الحب والبهجة، وربما لا تكن لك غير الكره والاحتقار؟

افظع صفة غلبت على مثقفينا استعدادهم للتزوير والتلفيق. المفروض في المثقف ان تكون الحقيقة والصدق رائده. ولكنني وجدت استخفافهم بهما كافيا لردعي عن قراءة أي شيء يكتبونه او يقولونه.

لا شك وانا اختتم هذه السلسلة، سيقول الكثيرون، وانت يا خالد القشطيني ما الذي فعلته في تحدي السلطان او نجدة الفقير؟ والحق معهم. لا شيء. كلنا في الضلالة سواء.