الكون التكويني والكون التدويني

TT

كتب آية الله (عبد الله جواد الآملي) في مجلة «الثقافة» وهو يشرح معنى الكتاب من سورة الرعد وما المقصود به؟ فقال بأن الكتاب التكويني هو الكون وان الكتاب التدويني هو القرآن وكلاهما حق. ثم وضع عنوانا آخر ذهب إلى أن الكون كله علم متجسد. وقال بأن نقل هذا النظام إلى العقل هو العلم. أو كما يقول محمد كامل حسين في كتابه «وحدة المعرفة» انه في الكون نظام وفي العقل نظام والمطابقة بينهما هي المعرفة وهي ممكنة وهما من مصدر واحد. ولكن ما أسهل هذا الكلام؟

وذهب محمد عنبر في كتابه «جدلية الحرف» إلى أن سر الوجود مطبوع في اللغة وأن أي كلمة تحوي عكسها على نحو آلي مثل بر ورب وفر ورف. فما علينا للوصول إلى حقائق الأشياء سوى البحث في كنز اللغة.

وعندما ندخل المكتبة العظيمة ونبصر فيها آلاف الكتب، نقول إنها علوم وما كتب فيها علم والذين ألفوها علماء وما دونوه هو جزء يسير مما عرفوه من هذا الوجود. ولكن كيف يكون محتوى هذه الكتب علماً؟ والذين دونوه علماء؟ وأن مضامين الكتب ومعارف العلماء هي كون متجسد؟

والذي أريد أن أقوله اننا لا يمكن ولا نستطيع أن نقول اننا نفهم القرآن. والدليل على ذلك كيف ألح الله على معرفة التاريخ البشري في القرآن وأخبار الأمم وأن نكون شهداء على الناس. ولكن هذا القسم الضخم من القرآن أهمله المسلمون وكأنه لا قيمة له أبداً ولا يلتفت إليه. وما يجب أن نفهمه من هذا أن دلالة الكتاب يمكن أن تلغى إلغاءً تاماً وكأنه غير موجود، والذي سينبه المسلمين إلى هذا الذي في الكتاب هو الاهتمام بالتاريخ والكون والمثل على ذلك قوله تعالى «سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق». فهذه الآية موجودة عند المسلمين منذ يوم نزولها، ولكن هذه الآية لم تفد المسلمين بشيء، وحتى الذين عرفوا كيف بدأ الخلق لم ينطلقوا في بحثهم من هذه الآية وإنما من ملاحظة الكون فكان الانطلاق.

والذي دل على نفسه وما فيه هو الكون ذاته وليس الكتاب، والأعمق في الدلالة أن المسلمين يرفضون معنى هذه الآية بعد أن صار محتوى هذه الآية المرجع الأساسي لفهم الأمور، وأن الحدث أو الشيء أدل على ذاته من كل وصف عنه، وعند الاختلاف فالمرجع ليس الكتاب وإنما العودة إلى الحدث أو الشيء.

ومثلاً فإن صخرة ما أدل على نفسها من كل كلام يقال عنها حتى لو كان كلام الله لأن الله استخدم كلام البشر في الحديث عنها، ولكنه لما خلق الصخرة لم يحتج للبشر، فالصخرة أدل على صنع الله من كل كلام يمكن أن يقال عن الصخرة. وعند الاختلاف فإن المرجع الذي يجب الرجوع إليه ليس الكلام بل هو البحث في الصخرة ذاتها. فيمكن أن تُرى من زوايا تماس لا نهائية كما هو معروف في علم الرياضيات. فقد يراها جيولوجي كوسيلة لفهم طبقات الأرض. ولكن المؤرخ قد يعتبرها مكانا استراحت فيه فرقة عسكرية. أما الفيزيائي فقد يرى فيها تركيب الفلزات. ويرى البنّاء أنها قطعة معمارية ممتازة لواجهة البنايات. أما الآركيولوجي فقد يذهب لتحديد عمرها. وقد يراها عالم المعدن ثروة معدنية مهمة. مع هذا تبقى الصخرة عصية على الجميع وتبوح بجانب من سرها لكل واحد ولا تنتهي لأنها كلمة الله في نسختها الأصلية التي لا تتبدل والنهائية.

ويروى عن تلاميذ لأرسطو أنهم تناقشوا يوماً حول عدد أسنان الحصان فاختلفوا جدا، ولو فتحوا فم الحصان وعدّوا الأسنان لوصلوا وتوقف النزاع. وعند هذه النقطة تطور المنهج الاستقرائي وتجاوز المنطق الأرسطوطالي الصوري القديم. ولولا هذا لبقي العقل الإنساني يرزح في قيود الفلسفة اليونانية حتى اليوم، ولما خلق العالم الحديث. ذلك أن العالم هو صورة الفكر على الأرض والواقع.

وإذا جاء علم جديد وفهم جديد أعمق عن الصخرة فلن يزيد عن التعامل مع الصخرة، وهذه البديهية البسيطة مخفية عن أعين المسلمين وعن البشر أيضاً، لهذا يلح القرآن على الرجوع إلى الكون المادي والاجتماعي لفهم سننه ونظامه، ويدلل بذلك على أن الواقع أدل على ذاته من كلامه أيضاً، ولما يقول ستفهمون في المستقبل معنى هذا الكلام لأن الواقع هو الذي سيكشفه. وسنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق.

وسأل أخ كريم فقال: «هل رادع الخوف من الدمار وحده كاف لإنهاء الحروب ليحل السلام في العالم أم السلام بالإسلام الحقيقي؟».

وجوابي أن رادع الخوف من الله لم يصنع السلام بين المسيحيين خلال ألفي سنة. كما أن رادع الخوف من الله لم يصنع السلام بين المسلمين خلال ألف وخمسمائة عام بدءا من معركة صفين وانتهاء بحرب الخليج. ولكن الرادع النووي صنع السلام بين الذين دخلوا هذا العالم، وهذا ليس عيبا في الإسلام ولا نقصاً فيه. والرادع النووي صنع السلام والرادع الديني لم يصنع سلاماً. عفواً ينبغي ألا نخطئ، فلماذا لا نسمي الأشياء بأسمائها؟ ولماذا لا نعتبر أن الرادع النووي رادع إلهي أيضاً يجري وفق سننه؟

فهذا ما يقول الله عنه إذا كنتم لا تصنعون السلام لأني أقول لكم ادخلوا في السلم فدخلتم الحرب فلسوف أرغمكم بآيات الآفاق على الدخول في السلم كافة فهذا معنى انظروا وانتظروا.

إن لم يحصل لكم إيمان بالموعظة فسيحصل لكم إيمان رغماً عنكم بعواقب الأمور. ولله يسجد من في السموات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال.

والحرب يدخل إليها الإنسان طمعاً في النصر، ولكن إذا تأكد من الهزيمة والموت فإنه لا يقدم عليها إلا كما يقدم على الانتحار. وطبعاً فإن عدد المنتحرين من دون شك أقل من الذين يموتون موتاً طبيعياً.

والنموذج على إنارة (الواقع) لـ(الألفاظ) كلمة «القلوب» المذكورة في القرآن، فهو يشير إلى أن القلوب هي التي تفقه، أي أن القلب هو عضو الفهم «لهم قلوب لا يفقهون بها» ولكن التعامل مع (الواقع) كشف أن القلب لا يزيد عن مضخة للدم ولا علاقة له بالفقه. و(الواقع) هو الذي بين أن هذا القول حقيقة أو مجاز أو خيال. والذي أثبته الطب أن عمليات زرع القلب لم تغير شخصية الإنسان. والذي يغير الفهم هو آفات الدماغ. فهذا الذي قاد إليه لم تكن النصوص بل الواقع. وهذا المثل يدل على أن هذا التسلسل هو الذي كان يحدث على مر التاريخ. والأمور التي اختلف حولها الناس تحولت إلى مسلمات لا تناقش حتى يأتي من يكسرها من جديد فيتقدم التاريخ على جسر من المعاناة فوق نهر من الدموع. نحن الآن نصاب بصدمة في مثل هذه الأمور، ولكن سبب الصدمة جدة الموضوع وصدقه وواقعيته، فالناس ينكرون الأشياء الجديدة في أول الأمر، ولكن بعد أن يشهد الواقع يضطرون أن يتكيفوا معه. وفي بلد مسلم حدثت معركة كبرى حول استخدام مكبرات الصوت للأذان قبل أربعين سنة استنادا إلى النصوص أنها بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار. واليوم وبدعوى النصوص وفي نفس المدينة لا يرفع صوت الأذان إلا بمكبرات الصوت وأحيانا ولساعات في السحر لقيام رمضان في قلب مستشفى فوق رؤوس المرضى في عمل لا يوصف أنه في صالح المرضى، ولكن من يستطيع الاعتراض؟ وما كتبت سابقاً يصيبني بالزهد كمن يخض الماء لأن إعادة القول مرارا غير مفيدة وجدواه في المستقبل القريب المنظور قليلة، لأن قانون التاريخ يقول: إن الشيء الذي يسلم به كثير من الناس يسهل قبوله، ليس لأنه صواب، بل لأن التسليم به لا يحدث معارضة وحرجاً. ولكن الأمر الذي ينكره الناس وخاصة انه حين يتم الإجماع على إنكاره يفقد الإنسان القدرة على إدراكه، وعندما جاء النبي بالصدق قالوا عنه كذاب أشر سيعلمون غداً من الكذاب الأشر؟ إن معرفة التاريخ تظهر كيف مر البشر بمثل هذه المنعطفات فكانوا يرفضون أموراً ثم يقرون بها، وكانوا يقبلون أموراً أخرى ثم يتركونها. ورؤية نماذج من هذا النوع تجعل الإنسان يتشكك في الأشياء التي نسلم بها أنها ليست خالدة أبدية، والله وحده هو الأبدي السرمدي ليس كمثله شيء، ولكن المخلوقات متغيرة. ولو تيسر للإنسان أن يراقب وضع الكرة الأرضية فكرياً ونشوء الحياة فيها وأنواع الحيوانات التي عاشت فيها وكيف أن الحياة كلها بدأت ذات يوم في الماء ثم صارت اليابسة ثم وجد الإنسان، فقد يطرح السؤال نفسه: لماذا لا يخطر في بالنا أن هذا الخلق لا يزال مستمراً؟ لماذا لا يخطر في بالنا أن الخلق لم يتوقف ولا يزال يخلق ويزداد في الخلق وأن هناك نِشأة أخرى؟ ويزيد في الخلق ما يشاء، ان الميزة الكبرى للإنسان أنه يستفيد من التاريخ. ومعرفة كيف بدأ الخلق هي التي تدل على استمرار الخلق والزيادة فيه. ونحن البشر لم ندرك تاريخ الأرض إلا منذ مائتي عام. فما هي المائتا عام بالنسبة لملايين السنوات التي عاشتها الأرض وليست فيها كائنات عاقلة. إن التاريخ سيضطر المسلمين لأن يغيروا فهمهم للقرآن. وعند هذه النقطة فإن المسلمين يقفون من التاريخ موقفاً سلبياً ولا يعترفون بالتاريخ العام وإنما بتاريخهم فقط، بينما لا يأخذ تاريخهم حجمه الحقيقي سلبا وإيجابا إلا إذا نظر إليه من خلال التاريخ العام. حدثني صديق لي أن بعض الناس تشككوا في وصول الناس إلى القمر عندما أعلن ذلك، فاجتمعوا ليتخذوا قرارا في هذا. وأثناء بحثهم قال أحدهم: إذا تبين فعلاً أنهم وصلوا إلى القمر فماذا سنقول؟ قالوا: سنقول ان فهمنا للقرآن كان خاطئاً؟