الإيرانيون والسجون.. رغبة خفية تثير الأسئلة والحيرة!

TT

جهز رضا حقيبة ملابسه منذ الشهرين الماضيين، وودع اصدقائه واقربائه، وكل ما يستحوذ على تفكيره الآن هو متى يحل يوم اعتقاله. ورضا صحافي ايراني يعمل في طهران ويترقب يوم اعتقاله بتهمة «شن حرب على الله»، وقد كتب بعناية كبيرة كلمة الدفاع عن نفسه في حال مثوله امام المحكمة الثورية الاسلامية. وبالطبع، فان الكلمة الجوهرية هنا هي «في حال»، فليس من المؤكد ان رضا، الذي اضطررنا الى عدم ذكر اسمه الحقيقي، سيعتقل عن حق. وفي واقع الامر، فان اسمه يرد بين اسماء عشرات الكتاب والمثقفين الذين تردد الشائعات بأنهم مرشحون اكيدون لدخول سجن «ايفن» المرعب في طهران.

مع ذلك، لم يعتقل رضا او اي من اصحاب الاسماء الاخرى، ويوما بعد يوم تتبدد آمال هؤلاء في الدور البطولي الذي يحلمون بلعبه.

ومن بين المفارقات المحزنة للوضع الغريب السائد في ايران اليوم ان قضاء مدة في السجن بات يعد علامة اكيدة على استقلالية هذا الصحافي او ذاك، بل على قيمته كشخص. ويشرح احد الآملين في دخول سجن «ايفن»، موضحا «ينظر الى هؤلاء الذين لم يسجنوا بنظرة يملأها الشك»، ويردف «اما اطلاق سراحك فيعد من جانب الكثيرين علامة على ارتباطك بالسلطات المتشددة».

واطلق هذا الوضع الغريب موجة مضادة من الاشاعات. وبحسبها فان من يعتقل ويرسل الى السجن هم، في حقيقة الامر، عملاء للنظام، جرى اعتقالهم لمنحهم قدرا من الشرعية الشعبية. ويشير البعض الى واقع ان كل صحافي وكاتب موجود في السجن الآن، كان في وقت ما عضوا في المخابرات او ناشطا عسكريا في تيار الخمينية، على انه دليل يؤكد وجود خدعة وراء هذه الدراما باكملها.

وفي مجتمع ترفض فيه الرواية المباشرة للاحداث ولا تؤخذ فيه بجدية، يقبل معظم الناس على تصديق كل الحبك التي تنسج حول نظرية المؤامرة.

فماذا عن حقيقة هذه المسألة؟

لا بد من الاشارة اولا الى انه ليس ثمة من شك في امكانية اعتبار ان كثيرا من «المرشحين لدخول ايفن» هم «مذنبون» بذنوب المسجونين حاليا. غير ان السبب الحقيقي وراء الامساك عن حبس «هؤلاء المرشحين» يتمثل في عدم قدرتهم على إحداث أضرار. فبعد اغلاق كل الصحف المعارضة والناقدة للنظام، لم يعد هناك من قناة يبث هؤلاء آراءهم من خلالها.

اما الحقيقة الثانية في هذا السياق، فاستبعاد اصابة اي من الصحافيين الموالين لخاتمي من الذين سجنوا خلال الشهور الماضية بأي اذى. ورغم انه قد تصدر بحقهم عقوبات بالسجن لمدد طويلة من الوقت، الا ان معظمهم متأكد من اطلاق سراحه بعد مدة قصيرة من تنظيم الانتخابات الرئاسية المقبلة في مايو (ايار) المقبل. فمؤسسة الثورة الايرانية اكثر شبها بنظيرتها الصينية في عهد ماو تسي تونغ، منها الى الثورة البلشفية في عهد ستالين. وقد سجن ماو وألحق الاهانة بخصومه ضمن مؤسسة الثورة، غير انه لم يصدر الاوامر باعدامهم ابدا. بل ان بعض هؤلاء المساجين الذين جرى نفيهم داخل الصين او تعرضوا للاهانات خلال ما سمي بالثورة البروليتارية الثقافية العظيمة، نجوا مما لحق بهم وعادوا لتسلم مقاليد السلطة في بكين، وكان من بينهم دينغ زياو بينغ نفسه. لهذا، لا تندهش ان خرج علي اكبر جانجي، المسجون حاليا بتهمة قد تفضي الى انزال عقوبة الاعدام به، من السجن واصبح بعد مدة بسيطة وزيرا في الحكومة.

وتقودنا النقطة الثالثة الى الاشارة الى ان مؤسسة الثورة الايرانية لا تعامل اي معارضة خارج اطارها بهوادة، غير انها في ذات الوقت تتحلى بصبر اكبر عندما يتعلق الامر بمعارضة ضمن نطاقها. وهناك العديد من الاسباب وراء ذلك. فالثلة التي تقارب الالف من الاشخاص الذين يشكلون بينهم المؤسسة الحاكمة غالبا ما يرتبطون ببعضهم البعض من خلال نظام معقد من علاقات القربى والزيجات المتبادلة والصداقة الشخصية، واخيرا وليس آخرا، المصالح المالية والتجارية. وتكشف دراسة اخيرة اجرتها كلية العلوم الاجتماعية في طهران ان اكثر من 90 بالمئة من الذين يحتلون ابرز الف منصب ووظيفة حكومية في القطاع العام يرتبطون بعلاقات قربى بينهم. اما العدد الاكبر من هؤلاء فعلماء دين. وقد نوه محسن كاديفار، وهو من علماء الدين الذين ينتقدون المؤسسة من الداخل، في مقال حديث ان 80 بالمئة من المناصب المئة الابرز في الدولة الايرانية يشغلها علماء الدين.

فضلا عن ذلك، تمتلك الشخصيات الابرز للمؤسسة الايرانية الصحف الايرانية إما بشكل مباشر او غير مباشر، فالمرشد الاعلى علي خامنئي، مثلا، يمتلك صحيفة خاصة به، بينما يمتلك اثنان من اشقائه صحيفتين ثانيتين. كما يمتلك شقيق الرئيس خاتمي صحيفة، مثلما هو حال ابنة الرئيس الايراني السابق هاشمي رفسنجاني.

لقد قاد ذلك كله الى زعم ان مجمل اللغط المتصاعد ازاء المعارضة في ايران ليس اكثر من «استعراض آخر لعلماء الدين»، صمم لاستبقاء السيطرة على كل الانتقادات داخل المؤسسة. الى جانب ذلك، يذهب خصوم النظام الى ان اي معارض من خارج المؤسسة يتجرأ على انتقادها علنا يسحق بلا رحمة إما بشن حملة لتشويه سمعته، او باللجوء الى الطرق المباشرة باغتياله.

غير ان مثل هذه المزاعم تجانب حقيقة ما هو جار. فليس من شك في ان العراك الذي شهدناه خلال العامين او الثلاثة الماضية، اي منذ انتخاب خاتمي، ظل محصورا بعناية داخل المؤسسة الحاكمة. وانه في يونيو (تموز) 1999، عندما تهددت ثورة طلابية بالاجهاز على الاستعراض القائم برمته وسحب زمام السيطرة منه، اتحدت كل زمر المؤسسة الحاكمة وسحقت هذه الحركة. بيد ان من الواضح ان المعسكرين، ما يسمى بمعسكر الاصلاحيين الذي يقوده خاتمي والمتشدد الذي يقوده رفسنجاني، منقسمان عن حق ازاء عدد من القضايا الجوهرية. ومرة اخرى، ربما افادت التجربة الصينية في فهم الوضع الايراني.

اذ كان دينغ زياو بينغ وياو وين يوان ينتميان الى نفس المؤسسة الحاكمة، وسعى كل منهما الى ابقاء الحزب الشيوعي ممسكا بزمام السلطة في الصين، بيد اننا نعلم الآن ان دينغ كان مستعدا لترك الصين تطور صيغتها الخاصة من الرأسمالية، بينما مال ياو واعضاء آخرون من «عصابة الاربعة» الى العمل بتجربة الخمير الحمر في كمبوديا، وتكرارها في الصين.

لهذا فان المدخل الصحيح في التعاطي مع التطورات الراهنة في ايران يجب ان ينطلق من خليط من واقعية صارخة وتفاؤل حذر. وسيمنى الذين يتوقعون تحويل خاتمي ومعسكره ايران الى ديمقراطية بخيبة امل في النهاية. فخاتمي ومعسكره لا يؤمنان بالديمقراطية، التي يعتبرانها نموذجا غربيا لا يمكن تطبيقه على المجتمعات الاسلامية. كما انهما لم يتخليا عن حلم الخميني في تصدير «ثورته» الى العالم بأسره. رغم ذلك، اظهر خاتمي ومعسكره درجة من الواقعية لم يبدها اي من خصومه ضمن المؤسسة الحاكمة من قبل. وكانت القوى العظمى قد قررت في السبعينات دعم تشو اين لاي ودينغ زياو بينغ في مواجهة «عصابة الاربعة» في الصين. وكان هذا خيارا صحيحا وواقعيا. ولا جدال في ان ايران اليوم تختلف عن الصين قبل ثلاثين عاما، غير ان خيارا مشابها مفروضا اليوم في ايران. فمن الواقعية اليوم دعم الفريق الذي يبقي على بعض الخيارات مفتوحة ويتطلع نحو المستقبل.

ومع تصاعد حرارة الاجواء العامة بالاقتراب من موعد الانتخابات الرئاسية المقبلة، لا يتمثل السؤال المهم في هذا السياق بالوقوف الى جانب معسكر الاصلاح في مواجهة المتشددين. بل يتلخص السؤال الحقيقي في قدرة معسكر الاصلاح على العثور على مرشح جديد، يتمكن من التقدم خطوة واحدة على الاقل على ما وصل اليه خاتمي. لقد نجح خاتمي بشكل جوهري في تغيير الخطاب السياسي في ايران، وينبغي ان تكون الخطوة المقبلة تغيير بعض السياسيات المحلية والخارجية المهمة للنظام. وهذا قد يتطلب وجها جديدا يحمل رسالة اكثر وضوحا.