سيناريوهات إسرائيل لضرب الانتفاضة عسكريا ونفسانيا

TT

الفراغ الرئاسي الأميركي فرصة سانحة لإسرائيل لشن حروب صغيرة في المنطقة تواصل وسائل الاعلام الإسرائيلية والغربية، في الأيام الأخيرة، نشر ما تسميه بالخطط العسكرية «السرية» الاسرائيلية لوقف الانتفاضة الفلسطينية. خطة أولى تقضي بإحكام الحصار على الأراضي الفلسطينية المحررة، ومنع الماء وقطع الكهرباء واسباب العيش والعمل والتنقل، وتوجيه ضربات محددة إلى القياديين الفلسطينيين. وخطة أوسع تصل الى شن عدة ضربات عسكرية وغارات كثيفة على مواقع عسكرية ومدنية في الدول العربية المجاورة للأراضي الفلسطينية، في حال تحول الانتفاضة الى مقاومة تدعمها هذه الدول... للوهلة الأولى، لا يستبعد إقدام الحكومة الاسرائيلية على تسريب هذه المعلومات الى وسائل الاعلام، كجزء من خطة الحرب النفسانية التي تستهدف ضرب معنويات ابطال الانتفاضة وشبابها، والتأثير على القيادة الفلسطينية وعلى الحكومات العربية. اذ انه من غير الممكن أو الجائز دوليا السماح لاسرائيل بالاقدام على مثل هذه الاعمال العدوانية، على الشعب الفلسطيني وعلى الدول المجاورة لها. لا سيما ان الرأي العام العالمي، حتى في الدول الغربية بات، اليوم، اكثر تفهما وتعاطفا مع الشعب الفلسطيني وحقوقه. ناهيك بالدول الكبرى، التي تدرك خطورة نتائج تنفيذ اسرائيل لمثل هذه الخطط على مصالحها في العالمين العربي والاسلامي، والتي لن تقف مكتوفة الذراعين امام تصعيد عسكري اسرائيلي بمثل هذا النوع وهذا الحجم.

غير ان نظرة ثانية الى هذه السيناريوهات العسكرية الاسرائيلية، قد تكشف عن احتمال ورودها أو اللجوء الى تنفيذها، اذا استمرت الانتفاضة وتعطلت كل امكانيات أو وسائل انهائها ايجابيا. ونعني بالانهاء الايجابي عودة الفلسطينيين والإسرائيليين الى طاولة المفاوضات مجددا، لا لاستئناف النقاش والجدل والمراجعة، بل لتوقيع الاتفاق الذي يبدد مخاوف الفريقين ان لم يكن محققا لكل امانيهم أو مطالبهم أو شروطهم.

لقد عودتنا اسرائيل على توقيت ضرباتها العدوانية مع ظروف دولية سانحة ومن ضمن مصالح دولية آنية ملتقية مع مصلحتها. ففي عام 1956 قامت بعدوانها «الثلاثي» على مصر بالاشتراك مع فرنسا وبريطانيا، اللتين كانتا في حالة نزاع حاد ومكشوف مع جمال عبد الناصر، الذي امم قناة السويس وكان يساعد الثورة الجزائرية. وفي عام 1967 شنت حربها الصاعقة على مصر، باتفاق ضمني مع الولايات المتحدة، التي كانت متضايقة من دور جمال عبد الناصر في دعم حركات التحرير في افريقيا والعالم العربي، وكما افتعلت اسرائيل ازمة المضائق وسحب قوات الامم المتحدة من سيناء وزجت عبد الناصر فيها، لتبرر عدوانها، فإنها انتهزت عام 1982، حادثة اطلاق النار على السفير الاسرائيلي في لندن، وغياب رؤساء الدول الكبرى عن عواصمهم، (كانوا يلبون دعوة الرئيس الفرنسي لحضور احتفالات في قصر فرساي..؟) لكي تجتاح قواتها الحدود اللبنانية وتصل الى بيروت، واليوم تسنح امام اسرائيل فرصة ذهبية «اميركية» الا وهي فراغ كرسي الرئاسة فيها بسبب الاشكال الانتخابي الراهن، ووجود رئيس اميركي في آخر ايام ولايته. والى ذلك، غياب اي خطة سياسية عسكرية عربية أو اسلامية تجابه مخططاتها العسكرية. فصحيح ان قمة عربية عقدت في القاهرة واخرى اسلامية في الدوحة، وان القمتين اصدرتا بيانين حافلين بالدعم السياسي والمالي والاعلامي للشعب الفلسطيني ولانتفاضته، ولكن اين هي الخطة العسكرية العربية أو القيادة العربية المشتركة أو الاستعداد الحربي الجدي للرد على عدوان اسرائيلي محتمل؟ أولا تشبه اوضاع الدول العربية والاسلامية اليوم اوضاعها عام 1948، أو عام 1967، من حيث «عدم الاستعداد» الجدي للقتال والحرب؟

ثم ان لجوء الحكومة والقيادة العسكرية الاسرائيلية الى واحد من هذه السيناريوهات التصعيدية الحربية، قد يكون، كما يرى البعض، المخرج الوحيد من المأزق الحالي، أو المقدمة العملية والضرورية للوصول الى اتفاق مع الفلسطينيين والعرب. وليست تلك بسابقة في تاريخ الصراع والحروب العربية ـ الاسرائيلية فكامب دافيد سبقته حرب تشرين. والانسحاب من لبنان، سبقته معارك الجبل عام 1987 واشتداد المقاومة في أواخر التسعينات، فالحكومة الاسرائيلية تحتاج ايضاً الى «غطاء» سياسي امام الرأي العام الاسرائيلي، والسياسيون الاسرائيليون هم كغيرهم من السياسيين يفضلون الحلول التي تنقذ ماء وجوهم ولا تحرقهم سياسيا.

ان الانطباع السائد اليوم هو ان الحكومة الاسرائيلية والسلطة الفلسطينية عاجزتان عن وقف الانتفاضة و«اعمال العنف» في فلسطين. وان الحكومات العربية والاسلامية «قامت بواجبها»، أو بالممكن منه في القمتين العربية والاسلامية، مراهنة على ان حربا عربية اسرائيلية شاملة جديدة، لن تقع وعلى ان عملية المفاوضات السلمية لن تتوقف، وعلى ان الدول الكبيرة والأمم المتحدة والمجتمع الدولي، لن تسمح بوقوع هذه الحرب بل ستعمد الى اطفاء نيرانها، ان هي اشتعلت. ولربما كان وراء هذا الموقف «الفاتر» سياسيا والسلبي عسكريا حكمة ما اذ ان اي اعلان من قبل الدول العربية والاسلامية بالاستعداد لحرب ضد اسرائيل، قد يتحول الى حجة في يد هذه الاخيرة، لتزيد من عدوانها أو تتمادى فيه. ولكن مشكلة العقل أو التفكير السياسي العربي، منذ نشوء الصراع العربي ـ الاسرائيلي، كانت ولا تزال، في التركيز على آخر مظاهر الصراع وظروفه الآنية، لاجتراح الحلول أو ردود الفعل، لا التخطيط البعيد المدى والمرحلي لخوض معاركه، ولا عجب فالتخطيط أو الستراتيجية تتطلب شيئين يفتقدهما العرب، عموما وهما: وحدة الكلمة أو الرؤية أو الصف، من جهة، والتفاعل الديمقراطي الحر بين الشعب والأنظمة الحاكمة، من جهة اخرى.

ان الاسباب التي تدعو الى ترجيح تطور الانتفاضة الفلسطينية الى مقاومة شبيهة بالمقاومة اللبنانية أو الى حرب عربية ـ اسرائيلية جديدة تبدو راجحة على الاحتمالين الاخرين، اي: توقف الانتفاضة بقرار من السلطة الفلسطينية (كما تطلب اسرائيل)، او استئناف مفاوضات السلام بعد «اتفاق فلسطيني ـ اسرائيلي ـ اميركي»، على مشروع جديد للسلام، ينال فيه الفلسطينيون مكاسب ملموسة محققة مطلبا أو مطلبين اساسيين، أو بالاحرى حقا أو حقين من حقوقهم المشروعة. ولكن ما من حكومة عربية أو اسلامية، بل وغربية اوروبية أو اميركية، أو روسية الا وتخشى من نشوب حرب عربية ـ اسرائيلية جديدة. وستبذل هذه الدول جهدها للحؤول دون ذلك، ولكن هناك في اسرائيل وفي الدول العربية، وبين الفلسطينيين متطرفين عقائديين أو راديكاليين سياسيين، يتمنون وينادون ويعملون على تصعيد التصادم ودفعه نحو مزيد من المجابهة أو توسيع حلقته مؤملين في احدى نتيجتين: اما حسم الصراع في مرحلته الراهنة عن طريق القوة، واما احراج فاسقاط الحكومات والانظمة والسلطات الراهنة، من عربية واسرائيلية واسلامية. وهؤلاء الراديكاليون والمتطرفون الاسرائيليون والفلسطينيون والعرب والمسلمون، (والغربيون، ايضا)، حتى ولو كانوا يشكلون اقلية بالنسبة الى طلاب السلام، قد لا يدعون هذه الفرصة تفوتهم، لتحقيق اهدافهم السياسية وهي ليست كما قد يعلنون، التوصل الى سلام عادل وشامل بين العرب واسرائيل، بل الوصول الى الحكم في اسرائيل وفي الدول العربية والاسلامية.

يوم كانت الحرب الباردة محتدمة بين موسكو وواشنطن، اختار قسم كبير من العرب موسكو حليفا استراتيجيا، لمجابهة الحلف الاميركي ـ الاسرائيلي، أما وقد انتهت الحرب الباردة واصبحت الولايات المتحدة الاميركية هي «القطب» العالمي الذي في يده الحل والربط، كان من الطبيعي مراهنة الفلسطينيين والعرب على مساعدتها أو وساطتها لانتزاع حقوقهم من اسرائيل. ولكن تجربة عشر سنوات من المفاوضات السلمية، اسفرت عن خيبة ظن عربية كبيرة بالولايات المتحدة. ولعل المطلوب، اليوم هو العثور على طريق جديد للوصول الى مرفأ السلام بمعاونة الولايات المتحدة أو بدون معاونتها، هو اعادة تأسيس العلاقات العربية ـ العربية، والعربية ـ الاسلامية، بل والعربية الاسلامية الدولية على اسس جديدة تمهيدا لفرض الحقوق الفلسطينية والعربية على اسرائيل. وحتى لو لم يكن هناك عدوان اسرائيلي متماد في فلسطين والشرق الأوسط، أو لم تكن هناك انتفاضة فلسطينية، فان «حالة» العلاقات بين الدول العربية وبينها وبين الدول الاسلامية، بل داخل كل دولة، باتت بحاجة الى اعادة نظر، الى تقييم جديد، الى الملاءمة مع تحديات العصر والعالم الجديدة، والتي لا تقل خطورة عن التحدي الاسرائيلي.

الحرب العربية الاسرائيلية الرابعة أو الخامسة قد تقع أو لن تقع. والانتفاضة الفلسطينية قد تتوقف أو قد تتصاعد قبل ان يجلس الفلسطينيون والاسرائيليون مجددا الى طاولة المفاوضات. ولكن ما لم يعد يتحمل الجدل أو التسويف هو حصول الشعب الفلسطيني على وطن ودولة مستقلة، هو تراجع اسرائيل الى حدود 1967. مهما طالت المفاوضات، مهما حاولت اسرائيل لتأخير هذا الاستحقاق.