رثاء المجهول

TT

هذا رثاء أريد أن أكتبه عن شخص لا يعرفني ولا يسمع باسمي، وأنا أيضاً لا أعرفه ولم أسمع باسمه حتى الأسبوع الماضي. إنه المستر برتي فلستيد الذي اعتبروه من أبرز الشخصيات التي أثرت على مجرى القرن العشرين. ولكنه لم يكن مفكراً ولا كاتباً ولا سياسياً ولا أي شيء. وهو ما يكفي لي كحافز لرثائه. كان مجرد جندي بسيط اشترك في الحرب العظمى. وحتى كجندي لم يقم بأي شيء يذكر أو يبدي أي شجاعة خاصة. بل ربما يصح أن نقول العكس. ربما وصفه الآخرون بالجبن.

انخرط في الجيش البريطاني وأرسلوه للقتال في خنادق الجبهة الغربية (فرنسا). المعروف عن هذه الخنادق أنها شهدت أشرس قتال دموي في التاريخ، جرى الكثير منه بالسلاح الأبيض. في عام 1915، سكتت المدافع والبنادق وساد السكون جوانب الجبهة صباح يوم 25 ديسمبر. إنه يوم الكرسمس (يوم ميلاد السيد المسيح عليه السلام ـ عند الغربيين). جلس فلستيد مع رفاقه يفتحون ما وصلهم من هدايا ويتناولون الطعام التقليدي، وإذا بهم يسمعون تراتيل الكرسمس الدينية تهمهم من الخنادق المقابلة، خنادق الألمان. ارهف فلستيد سمعه إليها فانطلق متأثراً بها يغني ويرتل نفس النشيد بلغته الإنكليزية. انضم إليه رفاقه وسرعان ما راحت الخنادق البريطانية برمتها تردد النشيد وامتزجت أصواتهم بأصوات أعدائهم وإذا بالطرفين المتحاربين يتحولان إلى جوقة هائلة ترفع نشيدها، نشيد رسالة المحبة والسلام التي جاء بها ابن مريم، إلى السماء.

انتهى النشيد وعاد السكون يخيم على الجبهة. ولكن سرعان ما مزق السكون صوت جندي ألماني يدوي من الخنادق المقابلة: «هبي كرسمس جوني» (كرسمس سعيد يا جوني). لحظات من السكون. ثم فتح فلستيد فمه وهتف عالياً نحو مصدر الصوت: «هبي كرسمس أيها الألمان». مرت ثوان أخرى. رفع فلستيد ذراعه شيئاً فشيئاً فوق حافة الخندق. لم يطلق عليها أحد الرصاص. ثم استوى بقامته شيئاً فشيئاً فوق الخندق. لم يصبه شيء. حمل قنينة بيرة وخطى إلى الأمام نحو خنادق العدو متوغلاً في الأرض الفاصلة.

لم يطلق عليه الرصاص أحد. لا، بل فعل جندي ألماني مثله. صعد هو أيضاً فوق خندقه وراح يتقدم، وبيده قنينة نبيذ نحو عدوه البريطاني. سار الاثنان نحو بعضهما البعض في تردد وقلق حتى التقيا وسط أرض الفصل. مد كل منهما يده للآخر وتصافحا: هبي كرسمس جوني... هبي كرسمس فرتز! فتح كل منهما قنينته وسقى الآخر نخب العيد.

رمى الجنود، المانا وإنكليزاً بنادقهم على الأرض وخرجوا من خنادقهم في جموع حاشدة نحو خط الفصل وراح الطرفان يتصافحان ويتعانقان ويتبادلان الهدايا والشراب. جلسوا أخيراً يتغدون معاً غداء الكرسمس التقليدي. اتفقوا على قضاء العصر بمباراة كرة قدم على أرض الحياد. كذا فعلوا في اليوم التالي واليوم الذي بعده حتى سمعت القيادة البريطانية بهذا التآخي بين الجبهتين فأمرت فوراً بمنع ذلك وبأن يعود كل واحد إلى مهمته في قتل أخيه الإنسان، الذي كان يلعب معه كرة قدم يوم أمس.

بيد أن حكاية تلك الواقعة سرت في كل مكان. سمع بها المقاتلون، وروتها الصحف والكتب وصورت في أفلام ومسرحيات وساهمت بقدر كبير في نشر فلسفة اللاعنف والفكر المعادي للحرب. ويظهر أن سبحانه وتعالى قد بارك في حياة هذا الجندي البسيط فعاش حتى بلغ 106 من عمره وتوفي قبل أيام فقط. وهذه تحية من جندي بسيط من جنود اللاعنف إلى جندي بسيط من جنود السلاح.