خيار شمشون .. وآلية عمل الأساطير في حياة الناس

TT

جاء في العهد القديم في (سفر القضاة ـ ص 408) أن (شمشون) كان جباراً عاتياً يمكنه أن يواجه قبيلة بمفرده فيقتل ألف شخص بفك حمار، فلما أراد الفلسطينيون الإمساك به عجزوا عن ذلك لقوته الخارقة فأرسلوا له (دليلة) فوقع في غرامها وباح لها بسر قوته: (قوتي في خصائل شعري السبع فإذا حُلقت ذهبت قوتي)، فلما نام على ركبة (دليلة) غافلته فقصت شعره ونادت القوم فأمسكوا به وسملوا عينيه ثم سخّروه في الطحن بدلا من حمار الرحى وعرّضوه لكل الإهانات أمام الناس. وفي يوم العيد الكبير كان قد نبت شعره وعادت إليه قوته وهم لا يعلمون (وكان هناك جميع أقطاب الفلسطينيين وعلى السطح نحو ثلاثة آلاف رجل وامرأة ينظرون لعب شمشون) فدعا شمشون الرب وقال: يا سيدي الرب اذكرني وشددني يا الله هذه المرة فقط فانتقم نقمة واحدة عن عيني من الفلسطينيين. وقبض شمشون على العمودين المتوسطين اللذين كان البيت قائما عليهما واستند عليهما الواحد بيمينه والآخر بيساره، وقال شمشون: لتمت نفسي مع الفلسطينيين. وانحنى بقوة فسقط البيت على الأقطاب وعلى كل الشعب الذي فيه فكان الموتى الذين أماتهم في موته أكثر من الذين أماتهم في حياته).

هذه الأسطورة كانت خلف ولادة مصطلح (خيار شمشون SAMPSON OPTION) في قبو (الموساد) جنوب تل أبيب في (المدراشا) عام 1964عندما اجتمع أقطاب الدولة العبرية لمناقشة بناء السلاح النووي الذي سمي (سلاح الهيكل) كما سمت أمريكا أول قنبلة نووية لها بالثالوث المقدس (TRINITY) وكما سوف تُسمى قنبلة باكستان بالإسلامية. ونحن نعرف أن القنابل لا دين لها. إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان. لم يمر اجتماع (المدراشا) بدون معارضة، سواء أخلاقية أم تقنية، كما ذكر ذلك (سيمور هيرش SEYMOUR HERSH) في كتابه (خيار شمشون) خاصة من أولئك الذين عاشوا (الهولوكوست)، فكيف سيحرقون الناس وهم قد ذاقوا العذاب الأكبر قبل ذلك بأيدي النازيين في (آوسشفيتز AUSSCHWIETZ). صدرت عدة أفكار معوقة لمشروع الانطلاق النووي، منها النفقات المرعبة التي سوف تمتص خيرة العقول (15000 من حملة الدكتوراه) وأفضل الأيدي الماهرة، وزبدة الصناعات، وجبلاً من الدولارات في سبيل سلاح لن يستخدم. هل هناك حماقة أكبر من هذا! وكان من الأوراق المهمة التي قدمت في هذا اللقاء ما تقدم به (بنيامين بلومبرغ) وفحواه ان العرب لن يصلوا للسلاح النووي قبل 25 عاما. كما ورد عائق تقني في عدم توفر جهاز القاذفات الاستراتيجي. فضلا عن غياب نظام الصواريخ الذي سوف يحمل الرؤوس النووية. لذا انتهى الاجتماع الى ثلاثة خيارات: متابعة البحث العلمي، وإيجاد قطع تجميع السلاح، أو توليد القنبلة وتخزينها ليوم النبأ العظيم.

وهذا الذي كان. بدأ حفارو القبور النوويون يعملون بسرية وصمت مطبقين في إزاحة مئات الأطنان من الأتربة في صحراء النقب، لا يراهم إلا غربان السماء وأفاعي الليل البهيم، يبنون طبقا تحت طبق حتى بلغت ثمانية مخبأة في باطن الأرض على نحو مقلوب. كانت التقنية الفرنسية تقدم لهم أحدث إنجازاتها. فبعد الهجوم الثلاثي على مصر (1956) قايضت إسرائيل فرنسا الانسحاب من سيناء مقابل بناء مفاعل نووي يشبه مفاعل (ماركول) الفرنسي الذي يعمل في جنوب وادي (الرون). كذلك بنت لهم شركة (سان غوبان) المفاعل النووي بقوة 24 ميجاواط ليعمل لاحقا بخمسة أضعاف طاقته حتى 120 ميجاواط. أما شركة (داسو) فقد بنت لهم نظام الصواريخ. وكانت الطائرات الأمريكية المتقدمة (يو ـ 2) تصور وترى وتتشكك في طبيعة هذه الحركة الدؤوبة في غبار الصحراء وقيظ الشمس، لكن الإدارة الأمريكية كانت بين غض الطرف أو التشجيع، أو التذمر أحيانا، بدون أمر لإيقاف هذا العمل أو التأكد منه بجدية. وفي عام 1986 روى رجل اسمه (موردخاي فعنونو) يعمل بصفة فني في المفاعل النووي الإسرائيلي خبراً مثيراً عن طبيعة العمل في مفاعل (ديمونا) وقدم لصحيفة «الصاندي تايمز» البريطانية صوراً التقطها بنفسه (57 صورة ملونة) لكل أجزاء المفاعل. عندها أدرك العالم أن الدولة العبرية قطعت أشواطا بعيدة في إنتاج السلاح النووي. وكلف هذا (فعنونو) أن تصطاده الموساد في روما وتختطفه الى اسرائيل ليحاكم ويحكم بالسجن لمدة 18 عاما. وفي عام 1991 نشرت مجلة «الشبيجل» الألمانية الصورة التفصيلية بطوابقها الثمانية لـ (الرحم النووي) في ديمونا.

وكانت إسرائيل قد توصلت منذ أوائل عام 1968 لإنتاج البلوتونيوم بمعدل 2.1 كيلوغرام اسبوعيا. وبذا أصبحت إسرائيل قادرة على إنتاج ما لا يقل عن خمس قنابل نووية سنويا وكانت من النوع الانشطاري في المرحلة الأولى، كما في قنبلة هيروشيما. ومع مضاعفة الجهد لبناء المزيد من القنابل النووية امتلكت إسرائيل في مطلع عام 1970 ما لا يقل عن عشرين رأساً نووياً. وفي الثمانينات امتلكت حوالي مائتي رأس نووي. ثم مشى التطوير في نفس بانوراما ديناصورات القوى العالمية من إنتاج أنواع جديدة من الأسلحة، سواء في اتجاه التكبير أو التصغير، الانشطارية منها أو الهيدروجينية، الالتحامية أو النيترونية الشعاعية. يقول (سيمور هيرش) إن (يغال الون) ذهل لما رأى ما أنتجته الآلة العسكرية الإسرائيلية للمرة الأولى، فصرخ جذلا بغرور: (كنا نحارب البريطانيين في عام 1948 برشاش صغير وها هي إسرائيل تبني صواريخ نووية. إننا شعب عظيم. لقد انبعثنا أحياء بعد ان كنا امواتاً. وفي جيل واحد فقط أصبحنا مقاتلين. إننا سبارطة عصرنا).

هل ما قاله (يغال الون) صحيح؟

إنه يحمل نصف الحقيقة. ففي الواقع تحول (داوود) إلى (جوليات) المدرع النووي بعد مرور ثلاثة آلاف سنة. وترك مرقاعه وحجارته للأطفال الفلسطينيين. إنها عبرة تاريخية مريرة لتبادل الأدوار. ومغزى هذه القصة، موجود في المثل الشعبي الذي عبرّ عنها: (عليّ وعلى أعدائي)، اي ان مصممي السلاح النووي الإسرائيلي ادركوا من نقطة البداية أنه سلاح سوف يستعمل مرة واحدة فقط هي لحظة التهديد بالفناء، فإذا واجهوا خطر الفناء فلن يعيدوا قصة (الماسادا) بالانتحار الجماعي مرة أخرى. إن اليهودي تروي له أمه تدمير القدس ومذبحة (الماسادا) حتى اليوم، كما يتذكر الشيعة مذبحة الحسين في عاشوراء سنوية، ويُحمل الصليب في القدس على ظهور الرهبان. إنه لشيء أفظع من شحن الذاكرة المستمر للأطفال بمشاهد الحزن والظلم والصلب والقتل. وإذا كان (تيطس) و(سيلفا) قد اغرقا الذاكرة اليهودية عبر التاريخ بقصص الدم، فقد شطر (يزيد) العالم الإسلامي الى شيعة وسنة.

والسؤال لماذا يحدث هذا؟ يبدو أن هناك أناساً كما يقول المؤرخ البريطاني (توينبي) عندهم قدرة في تخليد أنفسهم على نحو مرعب، كما فعل تيمور لنك وجنكيز خان وتيطس ويزيد وهتلر من كل ثقافة وسجلوا أنفسهم على أية حال في التاريخ. وإذا كانت (الماسادا) قد أنهت حياة بضع مئات فإن النازيين أرسلوا إلى الموت مئات الآلاف من اليهود. ولهذا فإن فكرة السلاح النووي الإسرائيلي لم تولد في (المدراشا) في المناقشات السرية بين صانعي القرار في إسرائيل في قبو مجمع الموساد جنوب تل أبيب عام 1964بل ولدت في (الفانين زي WANNENSEE) على ضفاف بحيرة برلين في مطلع عام 1942حينما خطط (هايدريش) رئيس الجستابو النازي للقضاء على اليهود في أوروبا. لم يولد الجنين النووي الإسرائيلي في ديمونا بل في معسكرات الاعتقال والإبادة في بولونيا. ومن الغريب، وهذه آلية معروفة في علم النفس، أن الضحية تتشرب نفسية الجاني فتعيد فعلته وتكرر جريمته. وهذه مأساة إسرائيل، (اسبرطة) الشرق الأوسط التي تتغذى على ذكريات القائد الروماني (تيطس) ومحارق النازية في (آوسشفيتز AUSSCHWITZ) و(تيريبلنكا). النازيون خططوا لـ (الحل النهائي) الجرماني، ومؤسسو الصهيونية خططوا لـ (الحل النهائي) الإسرائيلي بخيار شمشون. لكن العلم الجديد يحمل في جعبته مفاجآت الاستراتيجية النووية في العالم. فكما تأخرت ولادة إسرائيل قرنا عن موضة الدول القومية التي سادت في القرن التاسع عشر، كذلك جاءت موضة السلاح النووي الإسرائيلي والقوى العظمى تودعها بجنازة خاشعة في باريس ومعاهدات سالت وستارت، ويبدأ النادي النووي يغلق أبوابه عن استقبال الزبائن.

اسطورة شمشون كانت وما زالت محور التفكير الإسرائيلي، لذلك كتبوا بالعبرية على القنبلة النووية: (لن تتكرر مآسينا مرة أخرى) و(لن تتكرر محارق آوسشفيتز). هذا هو (الدينمو) الفكري، والنظارة اللونية، اللذين ترى إسرائيل بهما العالم. إن قصة (الماسادا MASADA) كما أوردتها (الكرونيك) الألمانية (ص 186) هي القلعة التي حاصر فيها القائد الروماني (لوسيوس فلافيوس سيلفا LUCIUS VLAVIUS SILVA) عام 73 للميلاد بقية اليهود الذين فروا من القدس والتجأوا إلى قلعة على (البحر الميت) بعد تدمير القدس على يد القائد الروماني (تيطس TITUS) عام 70 ابن القيصر (فيسباسيان VESPASIAN) الذي أنهى بتدمير المعبد ونهب العاصمة (أورشليم) انتفاضة اليهود ضد الرومان التي بدأت عام 66. وعندما استولى اليأس على المحاصرين في قلعة (الماسادا) قاموا بذبح بعضهم بعضاً في عملية انتحار جماعية، بمن فيهم النساء والأطفال. إن التاريخ تكتبه الأساطير فوق جسر من الأحزان على نهر من الدموع.