أيام حارة في فنزويلا.. الديمقراطية

TT

رغم مضي أسابيع على الأزمة الراهنة في فنزويلا لا تلوح في الأفق فرص ظهور جهة «وسطية» ذات مصداقية تنهي ما يتحول يوما بعد يوم الى صراع بقاء او الغاء بين الحكومة والمعارضة. وفي حالة كحالة فنزويلا تنكشف في ابشع صورة، القشرة الرقيقة للتجربة الديمقراطية عندما تجد نفسها في امتحان عسير امام المصالح الكبرى.

ففنزويلا، كما هو معروف، دولة نفطية مهمة يذهب جزء كبير من نفطها الى الولايات المتحدة. وبالتالي فصلاتها النفطية مع «جارتها» الاميركية الاكبر كانت على الدوام عنصرا مؤثرا في حياتها السياسية سواء ابان حقب الديكتاتورية او الديمقراطية الهشة. وقد شهدت فترة «الحرب الباردة»، وبالذات في سنواتها الاخيرة، مقدارا من الاستقرار السياسي لا بأس به بين المحافظين من الحزب الاخضر والليبراليين الوسطيين من الحزب الابيض. لكن الفضائح المالية واستمرار تنامي حجم الفئات التي طالما وجدت نفسها خارج الحياة السياسية وفي اسفل السلّم الاجتماعي، افرزت ظاهرة هوغو شافيز.

ومن قلب المؤسسة العسكرية التي كانت عموما الحصن الحصين والملاذ الاخير لليمين في معظم دول اميركا اللاتينية، قاد شافيز التململ الشعبي وكسب ثقة الفقراء والمولّدين (الخلاسيين) والطبقات الدنيا وصغار العسكريين، وكلها جماعات وجدت لها اخيرا الصوت والسوط الكفيلين باعادتها الى الخريطة السياسية.

ومع ان شافيز قام بخطوته الاولى في المعترك السياسي وفق الطريقة العسكرية «الانقلابية» التقليدية، فانه سرعان ما ادرك ان الجار الكبير، واشنطن، لن يتسامح في هذا الشأن وسط ما روّج له في عموم اميركا اللاتينية على انه «عصر بناء الديمقراطية وتعزيزها وابقاء العسكر في الثكنات».

ثم خاض شافيز معركته الثانية «وفق الأصول» وكسبها بأصوات الناخبين بأغلبية ضخمة. لكن الخصوم الذين ادّعوا من قبل انهم دعاة الديمقراطية والحكم المدني في وجه التسلط والديكتاتورية، رفضوا مواصلة لعبة الديمقراطية معه. وبفضل سطوة المال وشبكات المصالح المتشابكة وامكانيات السيطرة على ادارات مرافق النفط ونقابات موظفيها وعمالها بجانب الهيمنة شبه المطلقة على الاعلام، بنى معارضو شافيز تحالفا شرسا جمع اعتى اليمين الفاشي الى غلاة اليسار.. وبدأت حملة من الاضرابات والتأجيج الجماهيري ما زالت تشل البلاد وتدفع بها نحو شفير الحرب الاهلية.

المعارضة رفضت حتى هذه اللحظة كل الحلول الوسط، بما فيها عرض شافيز تعليق الاضرابات في فترة عيد الميلاد، وذلك لانها مقتنعة اولا بانها تحظى بدعم لامحدود من الادارة الاميركية.. وثانيا، لانها مقتنعة ايضا بان منظمة دول القارة الاميركية ـ التي كانت الوسيط الابرز خلال الاسابيع الفائتة ـ لن تقوى على مواجهة واشنطن في مسألة بحساسية الازمة الفنزويلية وتبعاتها الاقتصادية والنفطية.

ان المعارضة وشافيز يدركان تماما انهما يخوضان حرب بقاء او الغاء، وهذه الحقيقة اضحت واضحة للجميع. اما الحقيقة الاخرى الأقل وضوحا بكثير فهي ان تجربة فرض الديمقراطية «من فوق» كما حصل في معظم دول اميركا اللاتينية خلال العقدين الاخيرين تجربة تفتقر الى الصدقية.

انها «زخرف» قشري من مستلزمات الدبلوماسية الذكية، وتدبير الامور بالصورة التي تخدم مصالح الجهات المعنية المؤثرة.

فالاقتناع الشعبي بجوهر الديمقراطية ما زال ضعيفا. والتناقضات الاقتصادية ـ الاجتماعية في دول اميركا اللاتينية حادة الى درجة تحول دون بناء الوفاق الوطني العريض المطلوب لممارسة ديمقراطية سليمة. وثقافة احترام الرأي الآخر وحق الآخرين بالاختلاف اضعف من ان تلجم اصحاب المصالح والموارد الكبرى وتردعهم عن ابتزاز مجتمعاتهم ومواطنيهم، وهز استقرار دولهم سواء عبر العصيان المدني والاضرابات المنسقة، او عبر تمويل الانقلابات العسكرية والتهديد بالحروب الاهلية.

ان الضحية الأبرز في الازمة الفنزويلية الحالية، بجانب المواطن الفنزويلي العادي طبعا، هي التجربة الديمقراطية التي انفضحت هشاشتها وظهر النفاق المحيط بها على حقيقته.