لماذا لا تستفيد أوروبا من تجارب الإمبراطورية الرومانية؟

TT

في الجزء الشمالي البارد من الكرة الأرضية، يتطلع الملايين من كبار السن الذين بلغوا مرحلة التقاعد لأيامهم المقبلة، وربما لعقد اضافي من العمر، بدون الحاجة للتفكير في أعباء العمل.

هؤلاء هم متقاعدو الدول الأوروبية الغنية التي تعاني تركيبتها السكانية من أزمة عميقة. فجميع دول الاتحاد الأوروبي الأساسية باستثناء أربع منها معرضة لزوال سكانها. وما لا يقل عن ثلاث منها ـ هي المانيا وايطاليا واسبانيا ـ قد تختفي كأمة قبل نهاية القرن الحالي.

ووفقا لأكثر التقديرات تأنيا فان الاتحاد الأوروبي بحاجة الى ما لا يقل عن 1.2 مليون مهاجر سنويا للمحافظة على توازنه السكاني. ومع ذلك فقد تبنى الاتحاد سلسلة من القوانين المتشددة ضد الهجرة خلال الأعوام القليلة الماضية، ويسعى لفرضها بالقوة.

واقع الحال في الطرف الآخر من البحر الأبيض المتوسط، أي جنوب أوروبا، مختلف للغاية. فهناك الملايين من الشباب الذين يقفون في صفوف أمام مقار القنصليات الأوروبية، على أمل الحصول على تأشيرات لدخول أراضيها، قلما تسنت لهم. هؤلاء يواجهون أيضا مستقبلا غامضا، ما لم تتبدل الأمور، إذ من المستبعد حصولهم على التعليم وفرص العمل التي لن يتسنى لهم بدونها معرفة شيء عن مواصفات العيش الرغيد.

قد يسأل البعض هنا: ما هو الحل اذا؟ وللاجابة يمكن طرح ان أوروبا بحاجة لاحياء تجربة الامبراطورية الرومانية، ليس من حيث نظام الحكم وسعته بل من حيث المساحة الجغرافية التي أمكن في حدودها للعديد من الدول المختلفة العيش معا بدون حدود تفصل بين أراضي كل منها.

فعلى مدار الف عام، كونت أوروبا وشمال أفريقيا وأجزاء من منطقة الشرق الأوسط، أي تلك المساحة المحيطة بحوض الأبيض المتوسط، معا عناصر كيان جغرافي طبيعي لا تفصل بين أجزائه حدود داخلية. وقد انتشرت الشعوب والسلع بحرية في تلك المساحة الشاسعة، وساهمت في الرخاء الاقتصادي والثراء الثقافي. وكانت كل الأديان متاحة لأن الدولة لم يكن لديها دين رسمي. ولم يتعرض أحد للسجن بسبب رأيه السياسي. ولم تكن الامبراطورية الرومانية مستندة الى التنظير بل الى القانون. وطالما التزم الفرد بالقانون، فان الدولة لم تكن مهتمة بعرقه أو بخلفيته الإثنية، وبنوعه الجنسي وبوضعه الديني أو الاقتصادي. (يذكر ان تجربة الامبراطورية الرومانية كان لها جوانبها القبيحة أيضا، فقد تسامحت مع تجارة الرقيق وخلال مراحلها النهائية انغمست في مستنقع من الفساد الأخلاقي).

من الغريب أن يصبح ذلك الكيان الجغرافي والتاريخي الطبيعي بعد مايقرب من الفي عام، مقسما وفقا لاعتبارات دينية وثقافية وعرقية.

فالاتحاد الأوروبي أقر اخيرا انضمام مجموعة من الدول كبولندا وثلاث من جمهوريات البلطيق، التي لم تكن ذات يوم جزءا من الامبراطورية الرومانية، للاتحاد. وفي الوقت نفسه امتنع عن قبول تركيا، التي كانت ولألف عام مركز هيمنة الرومان.

كما أغلق الاتحاد الأوروبي أبوابه أمام مصر والجزائر وتونس وليبيا والمغرب، التي كانت جزءا من امبراطورية الرومان قبل أن تمد نفوذها لما أصبحت تدعى الآن فرنسا وبريطانيا. فما يطلق عليه الآن تركيا ومصر وشمال أفريقيا أنجبت عددا من قادة الامبراطورية الرومانية، من بينهم ما لايقل عن ستة من حكامها.

يفرض منطق العولمة ذوبان حدود الدول، التي نشأت في الأساس نتيجة للحرب العالمية الأولى، من اجل اقامة ساحات تجارية واجتماعية وثقافية أوسع.

ويمكن لشمال أفريقيا، التي تتمتع بأفضل الشواطئ المطلة على حوض البحر الأبيض المتوسط، أن تصبح أشبه بولاية فلوريدا بالنسبة لمتقاعدي الدول الغربية ودول شمال أوروبا المسنين. وبالمقابل، يمكن لملايين الشباب أن ينتقلوا شمالا من الجنوب لتوفير القوى العاملة المطلوبة للحفاظ على حركة الاقتصادات الأوروبية الحديثة. وتركيا من جانبها يمكن أن تصبح مصدرا مهما للقوى البشرية وللانتاج الزراعي، وأن تصبح قوة شرائية هامة تدعم أوروبا الممتدة.

يمكن لخليط واع يجمع بين الثروة والتقنية، اللتين يوفرهما الشمال، والقوى البشرية لدى الجنوب أن يجعل من الاقليم الأوروبي ـ المتوسطي الاقتصاد الأكبر والأكثر ازدهارا في العالم بطريقة لم يسبق لها مثيل.

أما حصر دول أوروبا في اطار مساحتها الجغرافية فقط، فقد يؤدي الى ما يصفه خبراء السكان بـ«الانفجار الغامض». وفي الوقت نفسه فان المناطق الجنوبية والشرقية من حوض البحر المتوسط ستظل فقيرة تحمل في أحشائها قنبلة سكانية موقوته تهدهم بالانفجار.

واستنادا الى هذه الخلفية، من المثير أن نتابع مايفعله بعض الأوروبيين الذين يتمسكون بالأحكام المسبقة التي عفى عليها الزمن، وهم يسوقون لنظرية «أوروبا الصغيرة»، كرئيس فرنسا الأسبق فاليري جيسكار ديستان الذي يزعم ان انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي قد يعني «نهاية أوروبا». والسبب في ذلك كما يقول جيسكار هو كلمة واحدة: الاسلام.

ويتبنى مستشار المانيا السابق هيلموت كول، على الرغم من حقيقة ان نجله الوحيد تزوج بسيدة تركية مسلمة، موقفا مشابها لموقف ديستان.

ما يتجاهله ديستان وكول هو حقيقة ان الاسلام بات بالفعل يمثل أكبر ثاني ديانة، بل وأكثر الجاليات نموا في الاتحاد الأوروبي. وهما نموذجان لرجال الأمس، الذين يرتبطون برؤى تعود للماضي بدلا من التطلع للمستقبل.

ماذا سيحدث لو ان دول القارة الأوروبية بأسرها، بما فيها جميع أولئك الذين رفضوا الانضمام للاتحاد الأوروبي، التحقت بتجمع واحد يضم تركيا ومصر ودول شمال أفريقيا الأربع المذكورة آنفا؟

هذه الرؤية الحديثة الممتدة للامبراطورية الرومانية العتيقة ستضم ما يقرب من 800 مليون مواطن، من بينهم 250 مليون مسلم.وهكذا سيصبح زعم ديستان الشائن بأن المسلمين قد «يمسحو أوروبا من الوجود» مجرد وهم. فالأوروبيون، وعلى وجه الخصوص الفرنسيون، يفخرون بتمسكهم بأنظمة الحكم العلمانية. الأمر الذي يعني عدم جواز منطق التعامل مع الاتحاد الأوروبي باعتباره تجمعا خاصا بالمسيحيين.

ولا يمكن فهم ما يطرح بشأن خطط الاتحاد الأوروبي المتعلقة باعتبار جورجيا وأرمينيا دولتين يمكن أن تنضما مستقبلا للاتحاد، فقط لانهما مسيحيتان، في الوقت الذي تغلق فيه الأبواب أمام تركيا والمغرب الأقرب جغرافيا وتاريخيا لأوروبا.

هناك درس هام من التاريخ يتضمن ان الحضارات التي تغلق أبوابها ينتهي بها المطاف، وقد وهنت ثم انقرضت في نهاية الأمر. وتاريخ روما بذاته دليل على ذلك.

وطالما ظل المجتمع منفتحا على الغير، يتقبل الناس على اختلاف دياناتهم ورؤاهم، فانه سيحافظ على مكانته كصانع حيوي للحضارة. لكن اذا ما قرر الجمود تحت سيطرة شكل واحد متغطرس من المسيحية، فانه سيبدأ في الانحطاط وسيلقى في نهاية المطاف هزيمة على أيدى خصومه التقليديين.

عملية الرخاء أشبه بوهج الشموع. فاذا ما شملت شموعا لم يتم اشعالها بعد فانها قد تثمر عن امتداد واسع للضوء. أما لو تركت الشمعة وحيدة فستحترق بمفردها حتى تنقرض في نهاية المطاف.