الخروف التركي الأسمر في القطيع الأشقر

TT

اعتادت دول الغرب في اواخر القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين ان تقطف خيرات الدول ذات الثروات الطبيعية من خلال استعمارها لهذه الدول. واعتادت هذه الدول مقايضة النفوذ او الاستعمار. ولنا في ما حدث بين بريطانيا وفرنسا المثال على ذلك حيث ان الدولتين اللتين كانتا صاحبتي شأن زمنذاك ابرمتا اتفاقاً تعهدت بموجبه فرنسا لبريطانيا بعدم التعاطي في الشأن المصري مقابل ان يستأثر الفرنسيون بالجزائر. وفي الحالتين كان جني الخيرات واذلال الشعبين هو الاسلوب المتبع... الى ان قيَّض الله للشعبين القدرة على المقاومة حتى نيل الاستقلال.

ولأن دول الغرب اعتادت ما نشير اليه، فان الأوروبيين ليسوا مرحبين بانتساب دولة مسلمة مثل تركيا الى اتحادهم، ليس فقط لأنها مسلمة ولأن سبعين مليون تركي يشكِّلون سلاحاً فاعلاً في أي انتخابات أوروبية، وإنما لأن الخصوبة التركية نشيطة وامكانية تعدد الزوجات مشروعة، وهذا يعني ان تتريك أوروبا قد يحدث خلال نصف قرن بحيث يصبح الأوروبيون مجتمعين اقلية كاثوليكية وارثوذكسية وبروتستانتية امام اكثرية مسلمة. وتزايد الخصوبة يعني ان يأخذ التركي الفقير نسبياً الضمانات الصحية والاجتماعية من طريق الأوروبي الميسور الحال عموماً. أي ان قاطفي الخيرات هذه المرة لم يعودوا الأوروبيين الذين طالما حلبوا البقرات العربية والاسلامية حتى آخر نقطة في الضروع المكتنزة حليباً دسماً.

ولقد اثبت الاوروبيون، بانزعاج بعض اصحاب القرار في دولهم من انتساب تركيا الى الاتحاد الأوروبي، انهم من ذوي النزعات العنصرية، وهذا معناه انه في حال انتقال تركيا من «قاعة الانتظار» الى قائمة المنتسبين فانها ستصبح مثل الخروف الأسمر في القطيع الأشقر، وسيكون الضيق منها واضحاً في اسلوب التعامل. بل اننا نخشى في هذه الحال على اخواننا الأتراك من ان يصبحوا في هويتهم المستجدة غرباء يتعامل معهم الأوروبي الأشقر على نحو تعامُل الاميركي الأبيض مع الاميركي الأسود في خمسينات القرن الماضي في الولايات المتحدة. وفي حال حدث ذلك فإن التركي سيجد نفسه داخل المجتمع الاوروبي الجديد غير مرحَّب به ولا حماسة لتسهيل عملية الانصهار معه.

وقد يقال ان العلاقة التركية ـ الأوروبية جيدة وهنالك احتكاك يومي من جانب الأوروبيين بالأتراك وهذا يعني ان الصورة المستقبلية المحتملة القاتمة يغلب عليها التشاؤم. وهذا ليس صحيحاً ذلك ان الاحتكاك المشار اليه هو احتكاك سياحي بمعنى ان الإقبال الملحوظ من جانب الاوروبيين على تمضية الاجازات في اسطنبول وبعض المدن التركية لا يؤشِّر الى القبول بالانصهار، ولان شغف الأوروبيين بالرقص الشرقي التركي وبأطايب المآكل في المطاعم والمرابع الاسطنبولية والإقامة على ضفاف البوسفور شيء، والقبول بالتركي كأخ في الأوروبية مثل أخوة العربي للعربي في العروبة شيء آخر. كذلك قد يقال ان الانسجام بين البريطاني والفرنسي وبين الفرنسي والالماني وبين الالماني والتركي وبين كل أوروبي وآخر كي لا نكثر من الشواهد والأمثلة، قائم وأنه لا خوف من حدوث مكاره تركية ـ اوروبية، فضلاً عن انه اذا كان البريطاني او الفرنسي غفرا للألماني أوزار النازية وغفرا من جانب آخر للايطالي الأوزار الموسولينية ويتعايش الجميع على احسن ما يكون عليه التعايش تحت سقف الخيمة الاتحادية الأوروبية، فلماذا يجب ألاَّ يحدث هذا التعايش مع الأتراك الذين ليس في ذمتهم مآخذ اوروبية عليهم؟ وهذا صحيح الى حد ما ومن الجائز التسليم به انما قبل العملية الترويعية التي استهدفت نيويورك وواشنطن يوم 11 سبتمبر (أيلول) 2000، وما استتبع هذه العملية من تداعيات متواصلة حتى الآن ومستمرة حتى اشعار آخر. لكن الأمر يختلف بعد هذه العملية وربط الإرهاب ظلماً بالاسلام وبحيث ان الاعلام الأميركي المتصهين والاعلام الأوروبي المتأثر نسبياً بمصالح «اللوبيات» اليهودية المنتشرة من قبرص الى روسيا لعب دوراً بالغ السوء في زرع مشاعر الحذر من جانب اوروبا المسيحية بكل ما يمت الى الاسلام بصلة. وفي ضوء هذه النظرة المقيتة سيكون تعامُل الأوروبي المسيحي مع أخيه في الأوروبية التركي المسلم. وقد يصل الأمر الى حد ان انتساب تركيا الى الاتحاد الأوروبي معناه ان تحدث هجرات متواصلة من جانب تركيا وبالذات من فقرائها الباحثين عن فرص العمل الى مناطق كثيرة في أوروبا وبحيث يفوق وجودهم في هذه المناطق الوجود الراهن للأتراك في بعض المدن الألمانية. وهذه المرة لن يكون الوجود كما حاله في الماضي، بمعنى انهم باتوا مواطنين اوروبيين ولهم حقهم مثل حق اي اوروبي. ولأنهم شعب متدين فانه ستكون لهم مساجدهم في أي منطقة يسكنونها، ولن يكون في استطاعة قانون بلدي ان يمنعهم من ذلك حيث ان بناء المسجد في هذه الحال يصبح حقاً مشروعاً.

وما يخشاه المرء من جرَّاء ذلك هو حدوث مواجهات تبدأ صغيرة ثم تأخذ طابع الحرب الاهلية على نحو ما اشتهرت به ايرلندا مع ان الطرفين مسيحيان. وتلك مسألة لا علاقة لها بالثقافة والتطور، ذلك ان الحرب الايرلندية تؤكد ان الحروب الاهلية لا تحول دونها الثقافة والوعي. لكن في الوقت نفسه ان انتساب تركيا بملايينها السبعين الى الاتحاد الأوروبي من شأنها في الوقت نفسه ان تحل معضلة العصر وهي تعايش الديانات الثلاث في بوتقة اتحادية وهذا بدوره سيزيل مع الوقت الحذر المتوارث الناشئ في النفوس حول ان التعايش الديني المسلم ـ المسيحي ـ اليهودي هو دائماً مثل مجاورة عود الكبريت لبئر النفط.

وتلفت الانتباه في مسألة انتساب تركيا الى الاتحاد الأوروبي تلك الحماسة المنقطعة النظير من جانب الادارة الاميركية لحصول هذا الانتساب وعلى وجه السرعة. ومن دلائل هذه الحماسة الاتصالات التي اجراها ويواصل اجراءها الرئيس جورج بوش الابن مع بعض القادة الأوروبيين وبالذات الرئيس جاك شيراك والمستشار الألماني غيرهارد شرودر بغرض ازالة تحفظاتهم. ويحتار المرء في هذه الحماسة وهل هي من اجل مصلحة تركيا وحباً بها وحرصاً على تطوير اوضاعها، وهل انها نتيجة طبيعية افرزها الفوز المبهر والمفاجئ لـ«حزب العدالة والتنمية» الذي هو النموذج المرحَّب به من جانب أميركا للاسلام الذي يمكن التعامل معه. وسبب الحيرة ان الادارة الأميركية تفعل ذلك وفي الوقت نفسه تكاد تخنق انفاس بضعة الوف من المسلمين الذين استوطنوا المدن الأميركية وعندما ذهب بعضهم الى دوائر الهجرة لتجديد اقاماتهم فوجئوا بإلقاء القبض عليهم والتحقيق معهم، وكل ذلك ضمن اجواء من الشك بهم واعتبار كل واحد منهم ارهابياً حتى يثبت العكس.

ومن الجائز الافتراض ان هذا الحرص من جانب الادارة الأميركية على ادخال الخروف التركي الأسمر في القطيع الأوروبي الأشقر سببه الخوف من لحظة مباغتة تحدث بموجبها صحوة تركية عارمة ويقرر بموجبها التركي انه مسلم في الدرجة الاولى وان عليه الخروج نهائياً من شرنقة الازدواجية وممارسة كل انواع الضغوط على حكومته وجنرالات مؤسسته العسكرية لكي يهتموا بأمتهم الاسلامية، وهذا يعني انهاء هذه العلاقة التي لا تثمر غير الحرام مع اسرائيل والتشاور مع بني قومهم الذين تربطهم بهم اواصر الدين، فلا تبقى تركيا جرماً دائراً في الفلك الأميركي، ولا تبقى سمعتها على النحو التي هي عليه بمعنى انها الحيثية والغطاء لأي عدوان اسرائيلي او أميركي على الجار العربي ـ العراقي الآن وسورية في زمن ليس بالبعيد.

ومثل هذه الصحوة التي نشير اليها ليست بعيدة الاحتمال، بدليل الصحوة الاخيرة المتمثلة بترجيح الرأي العام التركي كفة الاسلاميين وتمكينهم من الفوز المبهر الذي حققوه. وهذه الحماسة الملحوظة في الاتجاه الذي نشير اليه لم تأت نتيجة اطمئنان المواطن التركي الى ان «حزب التنمية والعدالة» سيُقرِّب له الخطى من أوروبا وانما لاعتقاد منه بأنه سوف يضع حداً لهذا الاندفاع الرسمي التركي في اتجاه اسرائيل وهذا الاستسلام بالكامل للمشيئة الأميركية. لكن الذي تلا الفوز اختلف تماماً عما سبقه، حيث ان الاسلاميين بطبعتهم الأردوغانية ظهروا عن قناعة، او لأن مقتضيات اللعبة السياسية تفرض ذلك، اقرب الى العلمانية والأتاتوركية والغرب اكثر من قربهم الى ما تريده شرائح الرأي العام التركي.

وفي تقدير المتابع للتطورات التركية فان تركيا على موعد مع مفاجآت اكثرها مبعثاً للسرور ليس ساراً على الاطلاق. فاذا طالت الإقامة الأردوغانية في «غرفة الانتظار» فان الرأي العام الاسلامي في تركيا سيجد من يحاول جذبه خصوصاً اذا نفَّذت ادارة بوش الابن وعيدها للعراق معتبرة دون وجه حق انه خرق القرار 1441 على نحو حملة الترويج لهذه المخالفة التي بدأها يوم الخميس الماضي جنرال الدبلوماسية الأميركية كولن باول والتي لا تقرها بقية الدول الاعضاء في مجلس الأمن، وانه نتيجة لهذا الخرق فان كبس الازرار في الحرب الالكترونية يجب ان يبدأ، خصوصاً ان هذا المخطط متفق عليه بين كواسر الادارة الأميركية واسرائيل ولا خلاف عليه من جانب بريطانيا وقلة عربية. وفي حال حدث ذلك وارتضت قيادة حزب «العدالة والتنمية» مشاركة تركيا في الحرب وعلى نحو الخطط المرسومة والمتفق عليها بين جنرالات «البنتاغون» والجنرالات الأتاتوركيين، فهذا معناه ان رجب طيب اردوغان انشق عن الاسلام الأربكاني من اجل هذه اللحظة فقط. وستكشف الايام ما قد يبدو قوله الآن عن الحالة التركية بأنه نوع من الظلم والتجني... او على حد بيت الشعر العربي الخالد: ستبدي لك الايام ما كنت جاهلاً. والله أعلم.