مجلس التعاون بين التقدم الاقتصادي والتراجع السياسي

TT

عقدت في الدوحة في 21 و22 ديسمبر الجاري، القمة الثالثة والعشرون لدول مجلس التعاون الخليجي العربية، في وقت لا تزال المنطقة تعاني فيه من الانعكاسات الاقتصادية والأمنية والسياسية لاحداث الحادي عشر من سبتمبر والحرب الاميركية ضد الإرهاب، وتقف، كذلك، على اعتاب حرب جديدة قد تشنها الولايات المتحدة على العراق.

وبالرغم من إدراك الجميع لخطورة الآثار السلبية المحتملة لهذه الحرب على دول مجلس التعاون وتهديدها لأمن واستقرار المنطقة، إلاّ أننا قد لا نجانب الحقيقة إذا قلنا ان القمة لم تتمكن من الارتقاء إلى مستوى هذه التحديات، والخروج بموقف عملي موحد يفعّل دور المجلس ليصبح أكثر قدرة على حماية أمن الوطن والمواطنين وضمان الاستقرار في منطقة الخليج. ومما زاد الأمر سوءاً أن عدم القدرة على بلورة قواعد وإجراءات مؤسسية لإدارة وحل الخلافات التي قد تنشأ بين الدول الأعضاء، بما لا يؤثر على تماسك المجلس وفاعليته، سمحت لبعض الخلافات البينية أن تجد طريقها إلى قاعة المؤتمر، ليس لمناقشتها واحتوائها وتسويتها، ولكن، وللأسف، لتُلقي بظلالها وسلبياتها على أعمال المؤتمر وقراراته وتوصياته، ولتطرح أكثر من سؤال حول قدرة المجلس على الاستمرار في النهوض بمسؤولياته الملقاه على عاتقه.

وبالرغم من أن القرارات والتوصيات الاقتصادية، مثل إقامة الاتحاد الجمركي بحلول يناير 2003، والعمل على تذليل الصعوبات والعقبات امام حركة السلع، وزيادة حجم التجارة البينية، وتوسيع قائمة الاعفاءات من التعرفة الجمركية، واقامة السوق الخليجية المشتركة بأسرع وقت ممكن على أن لا يتعدى ذلك نهاية عام 2007، والسماح لمواطني دول المجلس بمُزاولة جميع الأنشطة الاقتصادية في جميع الدول الأعضاء، وإصدار عملة موحدة بحلول عام 2010، كما سبق وأعلن، ووضع خطة استراتيجية اقليمية لمشاريع الطاقة والمياه، وتطوير العلاقات الاقتصادية مع الاتحاد الاوروبي وغيرها من القرارات والتوصيات، جاءت أكثر قُرباً من تطلعات شعوب المنطقة لما ستحققه من مستويات أفضل للتعاون والتكامل بين الدول الأعضاء، إلاّ أن هناك قضايا سياسية جوهرية أخرى كان لا بد أن تأخذ نصيباً أكبر من الاهتمام، إذا كانت الدول الأعضاء حريصة فعلاً على عدم تحوّل المجلس إلى مُجرد منتدى اقتصادي. صحيح أن البيان الختامي حرص على التذكير بأهمية الأمن والتعاون العسكري وإدانة الإرهاب، مع ضرورة التفريق بين الارهاب وبين حق الشعوب في النضال ضد الاحتلال وكذلك ضرورة إفساح المجال امام المرأة للمشاركة في الحياة العامة والقيام بدورها الاسري والاجتماعي والاضطلاع بمسؤولياتها، ويحدونا الأمل أن تشارك المرأة في اللجنة الاستشارية لتدلو بدلوها في قضايا المجتمع الذي تمثل نصفه.

لا يمكن لصانع القرار أن يتجاهل الانعكاسات السلبية للحرب المحتملة في المنطقة. فالحرب الاميركية ضد العراق سوف تفسح في المجال أمام واشنطن لإعادة صياغة النظام الأمني في الخليج على النحو الذي يتفق ومصالحها الاستراتيجية، خاصة أن وجودها في الخليج يعتبر أحد المرتكزات الأساسية في استراتيجيتها العالمية، وخصوصاً في ضوء تداعيات ما بعد الحادي عشر من سبتمبر. أضف إلى ذلك أن الحرب الاميركية ضد العراق سوف تؤثر سلباً على العلاقات فيما بين دول مجلس التعاون. ففي غياب موقف موحد تجاه المسألة العراقية، يصبح في حكم المؤكد أن تؤدي هذه الحرب إلى نشوء خلافات وانقسامات، حيث أنه في الوقت الذي تعلن فيه بعض الدول رفض استخدام أراضيها، أو تقديم تسهيلات للولايات المتحدة لضرب العراق، تقبل دول أخرى ذلك بشكل صريح أو ضمني تحت مظلة قرارات الشرعية الدولية الانتقائية. كما أن إسقاط النظام العراقي بواسطة الولايات المتحدة سوف يشكل سابقة خطيرة في المنطقة، ويفسح في المجال امام اميركا للتحرك ضد نظم عربية أخرى في المستقبل بذريعة أن هذه النظم تدعم الارهاب أو لا تكافحه حسب المفهوم الاميركي له، أو أنها تشكل تهديدات محتملة للمصالح الاميركية. فاستراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة، التي اُعلنت في سبتمبر 2002، والقائمة في جانب منها على توجيه ضربات وقائية أو استباقية ضد أي دول أو حركات تمثل تهديدات قائمة أو محتملة لاميركا ومصالحها، يجعل من بعض دول المنطقة، مثل إيران واليمن وغيرهما، أهدافاً محتملة للحرب ضد الإرهاب، بعد أن تفرغ الإدارة الاميركية من ملف العراق، وهو ما يعني أن المنطقة سوف تبقى تدور في دوامة من التوترات وعدم الاستقرار لفترة طويلة.

إن الاعلان عن رفض شن حرب على العراق والدعوة لإيجاد حل سلمي للمشكلة العراقية، وإن كان إيجابياً في مظهره، إلاّ أنه يؤكد، على الأقل حتى الآن، عدم قدرة دول المجلس على بلورة رؤية موحدة للتعامل مع هذه التحديات، كما يدل على ذلك بروز محاور جديدة للخلاف بين بعض الدول الأعضاء. فبعد أن أعلنت المملكة العربية السعودية عدم السماح للولايات المتحدة باستخدام أراضيها لضرب العراق، قامت قطر بتقديم القواعد والتسهيلات العسكرية لاميركا، ووقعت اتفاقية أمنية جديدة معها قبل انعقاد القمة بفترة وجيزة. كما أن للكويت موقفها المعروف بشأن الحرب على العراق بهدف تغيير نظام الحكم فيه. في ظل هذه المواقف المتباينة أصبح للترتيبات الأمنية والعسكرية مع الولايات المتحدة الأولوية على أي ترتيبات يمكن أن تتم في إطار مجلس التعاون الخليجي، مما يعطّل قدرة المجلس على تطوير أي موقف عملي مشترك، ويؤدي إلى خلق المزيد من المشاكل الداخلية التي تهدد تماسك واستمرارية المجلس من ناحية، وربما إلى استمرار الوجود العسكري الاميركي في المنطقة ولفترة طويلة، وما يترتب عليه من سلبيات من ناحية أخرى.

إن أحد المبررات التي تطرحها واشنطن لوجودها العسكري في المنطقة هو وجود نظام صدام حسين الذي يمثل تهديداً لجيرانه. ولكن ماذا بعد تغيير النظام في العراق؟ هل سيصبح المبرر الجديد لاستمرار هذا الوجود هو الخطر الإيراني أم الجماعات الإرهابية كما يسمونها، التي تسللت إلى اليمن؟ هل اتخذت واشنطن قراراً بابقاء المنطقة في حالة من التوتر وعدم الاستقرار، وتشن فيها حرباً جديدة كل عقد على الأقل، لاستنزاف ما تبقى من مواردها وحرمانها من تسخير مواردها البشرية والمادية لتحقيق التنمية والتقدم لما فيه خير المنطقة وشعوبها؟

أمام هذه التحديات المصيرية، يبدو جلياً أن مجلس التعاون يقف الآن على مفترق طرق ولم يعد هناك من مجال لتأجيل العمل على تطوير وتحديث آليات وأساليب عمله لاحتواء جميع الخلافات المعلنة والصامتة وبلورة استراتيجية موحدة، من منطلق أن المجلس هو ضرورة استراتيجية لدول وشعوب المنطقة. فلم يعد مقبولاً بعد الآن تغليب المصلحة الوطنية على المصلحة الجماعية لأن ذلك سيسهم حتماً في شلّّ قدرات المجلس. فالاتفاق على تحديد مصادر الخطر والتهديد والتزام الدول الأعضاء بتنفيذ ما يتم الاتفاق عليه من قرارات في جميع المجالات لتعزيز مصداقية المجلس، وبغضّ النظر عن صحة أو عدم صحة الهواجس المرتبطة بالأدوار التي تطمح بعض الدول إلى لعبها داخل المجلس، إلاّ أن تصرف البعض على أساسها ألحَقَ أضراراً فادحة بعمل المجلس. لذلك لا بد من مناقشة هذه القضية وغيرها من القضايا المعلقة بصراحة وشفافية والعمل على تبديدها في إطار مؤسسات المجلس وليس خارجها. إن حل المعضلات التي تحد من فاعلية ودور المجلس تتوقف على إرادة الدول الأعضاء ونظرتها لهذا الكيان المشترك. أضف إلى ذلك أن جهود الإصلاح التي تقوم بها الدول الأعضاء على الصعيد الداخلي في مختلف المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، وقيام الأمانة العامة بتطوير أداء أجهزة المجلس ومؤسساته ستساهم في تعزيز دوره. إن ثمن عدم الإصلاح دائماً يفوق ثمن الاصلاح، وإن التعامل مع المشكلات الراهنة بمنطق التجاهل أو الحلول الجزئية والمؤقتة سيؤدي إلى تفاقمها في المستقبل وترحيل أعبائها وعواقبها الوخيمة إلى الأجيال القادمة.

وأخيراً وليس آخراً، فإنه إذا تم إنشاء مجلس التعاون لدول الخليج العربية بقرار سياسي نتيجة لدواع أمنية ومصالح اقتصادية، إلاّ أن هذا الإنجاز أصبح الآن أحد المُكتسبات المشروعة والحقوق الثابتة لأبناء دول المجلس ولا يجوز التفريط فيه في أي حال من الأحوال.

* كاتب سعودي

*[email protected]