فيروز الانقلابي (2 ـ 2)

TT

كلما عادت صديقتنا المشتركة بارعة علم الدين من بيروت محملة بتحية عطرة من «أم زياد» يخطر لي ان اسألها عن خفايا ذلك التاريخ السياسي البعيد لنجمة نجوم او ان اهتف لهاتف نادرا ما يرد عليه أحد لأقول: يا أم الهول انطقي.

الاقدر على الاجابة عن هذه الاسئلة هو في الواقع «هول» او زياد وريث التسييس الرحباني المبسط الذي حوله زياد الى مكثف، فكل ما انتجه ولحنه وكتبه يدل على ان البيت الذي عاش فيه كان مسيسا من الدرجة الاولى، لكنها سياسة من نوع خاص لا حمراء ولا خضراء ولا علاقة لها بالاجتماعات الحزبية والاشتراكات بقدر ارتباطها بحلم جماعي لخصه الامير فخر الدين في آخر الاوبريت المشهورة للرحابنة حين قال لجاريته المحبوبة «عطر الليل»: انكسر سيفي فأكملي رسالتي بالاغنية.

ولم تكن فيروز التي قامت بدور عطر الليل رحبانية الملامح قبل تلك الحقبة، فقبل زواجها من عاصي، عام 1955 لحن لها كثر، وكتب اغانيها نفر مختلف الميول والمشارب والرتب من وزن وليم صعب، وعجاج المهتار وعبد الله بن الأخطل الصغير وعلى صعيد التلحين في مرحلة ما قبل الرحابنة كان الاهم من حيث وفرة المشاركة زكي ناصيف وتوفيق الباشا وفيلمون وهبي وتهمة الانتماء للحزب القومي السوري الاجتماعي بعيدة عن فيلمون، لكن زكي ناصيف كان وبقي لفترة طويلة قوميا سوريا ملتزما، بل ومن ابرز كوادر الحزب، اما توفيق الباشا، فلم يكن حزبيا فحسب، ولكنه كان ايضا ملحن نشيد الحزب القومي السوري الاجتماعي: «يا سورية لك السلام» وكاتب سيمفونية خاصة بأنطوان سعادة.

ولن استغرب اذا كانت معظم الاغاني التي اشارت اليها رسالة الاستاذ حسني ملكة والتي حضت على التغيير الانقلابي ومجدت الجيش السوري من انتاج تلك الحقبة وتلك الفئة، لكن هذه الفرضية تحتاج الى عودة دقيقة لتاريخ تلك الاغاني، ومع اني دققت ومحصت كثيرا لم اعثر على الجواب عند أنس زاهد في كتاب له عن الرحابنة لأنه لم يهتم بذلك الجانب على وجه التحديد، وعندها عدت للزميل جان داية أحد أدق العارفين بتاريخ الحزب القومي السوري الاجتماعي فدلني مشكورا على بعض المفاتيح ومنها امكانية تأثير زكي ناصيف وتوفيق الباشا وآخرين على فيروز في بداياتها الراقصة والمسيسة معا.

ومن الآن والى ان يتم التدقيق في تاريخ تلك الاغاني تظل قناعتي انها كتبت قبل عامي 1952 ـ 1954، وربما في عام 1949 الذي شهد اعدام انطوان سعادة في بيروت بعد ان سلمه حسني الزعيم ومحسن البرازي الى بشارة الخوري ورياض الصلح بضغوط من الملك فاروق، عند ذلك الوقت شحذ القوميون السوريون قواهم للثأر من حسني الزعيم وتحريض الجيش عليه وطبعا كانت الانقلابات اسرع من الاغاني المحرضة عليها فتأخر ظهورها الى ان صار الزعيم في خبر كان، في ذلك الوقت الذي ما كان فيه العسكر يحتاجون الى تحريض، وبتأخر تلك الاغاني اكتسبت معنى جديدا وصار لكلماتها وألحانها ابعاد وطنية أبعد من حالة انتقام زعيم غدر بالزعيم، وسلمه كيهوذا «بمحبة كاملة» الى جلاديه.

ان الرحابنة بالاصل وقبل ان يتحدروا الى انطلياس هم من بلد الزعيم انطوان سعادة «ضهور الشوير» لكن اشتغالهم بالسياسة قليل «فحنا السكران» الوالد كان منشغلا بالموسيقى وادارة الكازينو «الفوار» في انطلياس والأب بولس الاشقر الذي خالطهم وعلمهم الموسيقى لم يكن مسيسا ايضا، فمناخات فيروز المسيسة قبلهم هي التي انتجت بعض تلك الاغاني ثم جاء الرحابنة الى نمط ناجح فواصلوه، وهل هناك ما يروج كالاغاني الوطنية في موسم الانقلابات العسكرية..؟

ان اقتران فيروز بعاصي والرحابنة يتزامن بصدفة عجيبة مع نكبة الحزب القومي السوري الاجتماعي عام 1955، فبعد اغتيال عدنان المالكي في الثاني والعشرين من ابريل (نيسان)، صارت «الموضة» السياسية السورية واللبنانية اضطهاد ذلك الحزب المؤثر وتشتيت انصاره وشعرائه وفنانيه، ففي تلك المرحلة هرب من سورية شاعران كبيران من شعراء الحزب هما ادونيس ومحمود الماغوط، وفي اجواء الاضطهاد تلك، ربما كان انتقال فيروز السلمي الى احضان الرحابنة قد جنبها الوقوع والاحتساب على هذا التيار او ذاك، فلما واصلت اغانيها الوطنية السورية بملحنين جدد وشعراء جدد غاب المغزى الاساسي الاول والتأثير السياسي المباشر لملحني وشعراء الحزب المنكوب.

وامام بعض هذه الفرضيات لا أحب ان نحمل بعض المسائل اكثر مما تحتمل، فالفن بطبعه تقدمي الطابع ونهج فيروز منذ بداياته انساني الميول، وفي تلك الحقب لم يكونوا قد اكتووا بنار الانقلابات العسكرية، كما اكتوينا بنيرانها وعرفنا الدمار الذي سببته للبلاد والنفوس، وعليه من الممكن الافتراض ايضا انهم شجعوا تلك الانقلابات بحسن نية وغنوا لها ورحبوا بفرق جيشها واحدة واحدة كنوع من الاحتفاء بالتغيير.

ومن يبحث في التاريخ الفني والسياسي لتلك المرحلة عليه ان يلاحظ كثرة مهرجانات فيروز في الارجنتين، البلد الذي عمل فيه انطوان سعادة، واغتيل فيه لاحقا اديب الشيشكلي المنقلب بالتتابع على حسني الزعيم.

وللانصاف فإن فيروز لم تكتب للجيش السوري وحده، انما للعمال السوريين والزراعيين السوريين، والنساء السوريات ايضا في الاهزوجة القصيرة ـ الساذجة:

فتاة سورية

هيا الى المسير

فتاة سورية

لك الغد المنير

و«الرتم» الحماسي لم يختلف في تلك الاغاني كلها، الامر الذي يؤيد صدورها عن شعراء حزيين اخفوا اسماءهم قصدا او سهوا في ظروف التحريض على النضال الجماعي، ونأمل الا تكون قد ضاعت نهائيا من ارشيف الاذاعة السورية.

وهناك نزعات يعربية غنائية مبكرة ايضا يصعب اهمالها كأغنية قومية تأتي كدعاء وابتهال وهي بعنوان «ربي» ومنها:

غرة من عبد شمس تملأ الليل صباحا

وحسام يعربي دارة ما مل الكفاحا

وكلها تلتئم، وتنسجم في ذلك السياق الذي نبهنا اليه حسني ملكة، لنكتشف نحن الذين نظن اننا نعرف كل فيروز اننا لا نعرف عن بدايتها الا اقل القليل، فصاحبة الصوت الانقلابي الذي غير تاريخ الاغنية العربية كانت مع اغاني الحنين الاولى والاهازيج الراقصة مسيسة حتى العظم وواقعة ـ ربما ـ تحت تأثير شعراء وملحنين اصحاب ميول ثورية وانقلابية.

ان هذا الفصل الغامض من تاريخ الاغنية فيه الكثير من الاثارة، ومن المفاتيح السياسية والفنية، وحبذا لو عكف عليه باحثون جادون، فالمسألة فعلا تحتاج الى اكثر من دماغ واحد، وان لم نستطع ان نكتب ذلك التاريخ الفني القريب بدقة تليق بشخصياته واحداثه، فليت شعري ونثري، وويح قلبي وقلبك فكم من الاخطاء والفضائح والاكاذيب نرتكبها، ونحن نكتب تاريخنا السياسي القريب منه والبعيد.