2002: عودة المترجمين الكبار

TT

كان توفيق الحكيم يميز، او يفصل، بين الترجمة والتعريب والاقتباس. واضيف الى هذه التعابير اوائل القرن الماضي «التمصير» اي تبني مسرحية اجنبية للمسرح المصري. وكان الحكيم يقول ان حركة الترجمة اضافت الى حكايات الاسرة التي كانت ترويها الامهات لاطفالهن قبل النوم، خصوصا مغامرات «روكامبول» و«الفرسان الثلاثة» في روايات الكسندر دوما، وما شابه من قص شاعري اضيف الى حماسيات عنترة والزير ومبهجات الطفولة قبل ان يطل «رامبو» ويتحول جيمس بوند الى انسان الكتروني علاقته الوحيدة بالحقيقة اسمه.

تغيب موجات الترجمة ثم تعود. وتعايش كل حركة ترجمة او تعريب، زمنها وانتاجه. ولذلك تضاءلت في العقود الاخيرة ترجمة الكلاسيكيات الادبية التي راجت منتصف القرن التاسع عشر وردحا من القرن العشرين. وكان اللافت كثيرا هذا العام ظهور ترجمات جديدة لاعمال كلاسيكية قديمة، مثل «الياذة» هوميروس و«جحيم» دانتي، وكتاب «التحولات» للشاعر الروماني اوفيد. وبرر معظم المترجمين الجدد العودة الى ينابيع الاغريق والرومان، بان الترجمات الماضية لم تكن دقيقة او خليقة بالنص الاصلي. غير ان جميع الترجمات الحديثة لم تعد الى النص الاصلي، اليوناني او اللاتيني، بل لجأت الى النصوص الاوروبية. وانتقد الشاعر ممدوح عدوان ترجمة او ارجوزة المترجم الاول، سليمان البستاني «للالياذة» الهوميروسية.

وصدر «جحيم» دانتي بترجمتين للعراقي كاظم جهاد والسوري حنا عبود. وقد قدم كاظم جهاد لترجمته بدراسة جليلة عن دانتي و«الكوميديا» التي نقلته الى الجحيم كما فعل ابو العلاء المعري من قبل عندما ذهب على ظهر مخيلته في «رسالة الغفران». وكانت ترجمة دانتي الاولى قد ظهرت في مصر بقلم حسن عثمان. ويميل الناقد والشاعر عبده وازن الى اعطاء تقدير خاص لعمل كاظم جهاد.

لست ادري من اين يأتي ادونيس بالوقت وهدوء النفس والتكرس. ولم يكتف هذه المرة بابداعاته الخاصة بل قدم لنا ترجمة جديدة «للتحولات»، التي ظهرت في المرة الاولى بقلم الدكتور ثروت عكاشة. وقد اعتمد عكاشة النص اللاتيني الاصلي، فيما لجأ ادونيس الى ساحرته القديمة الفرنسية، التي اخذت بيده باكرا الى الشعر الحديث و«سان جون بيرس».

نص ادونيس مشرق، كالعادة. ويعيش ادونيس ويعمل ويسافر في عالم خاص، قليل النوافذ. وقبل ان يسافر الى برلين لتمضية عام كامل بموجب منحة ادبية من احد معاهدها الكبرى، التقيته مطولا في باريس وبيروت، ولم يأت على ذكر «اوفيد»، ربما لشعوره بان احدا لن يصدق انه منكب على مثل هذا العمل. وتساءلت في نفسي، لماذا «اوفيد»؟ ولماذا ادونيس؟ ولماذا اليوم؟ ولا جواب قاطعا اصل اليه. وانما يخامرني شك بان ثمة شبها كبيرا بين الشاعر السوري وصديقه الروماني، اول شعراء الامبراطورية الكبار. كلاهما لم يرد ان يفعل شيئا سوى الشعر. وقد ارسل اوفيد الى اثينا لدراسة القانون لكنه انصرف الى كتابة القصيد. ومثل مترجمه العربي راح يعبر عن ضياعه وضياع جيله وسقوط المثل التي راحت تتناثر امامه. ومثل هذا مثل ذاك، نزعة الى الغموض الجميل: امرأة تتحول الى طير وحجارة تتحول الى بشر وفتاة تصير اكليلا من الغار. وفي «التحولات» يرتقي اوفيد بالرمز ويطوره شيئا فشيئا حتى تصبح القصة الخيالية شيئا مألوفا. ومع ان «منفى» ادونيس الباريسي، اختياري انتقائي، فان منفى صاحبه كان ارغاميا. وفيه كتب اعذب الشعر و«اغاني الحزن».

الاعمال الكلاسيكية المذكورة جميعها غارقة في الرمز او هي غارقة فيه. والمؤسف اننا نعيش في عصر سريع الايقاع لم يعد فيه مكان للملاحم. والسادة الذين نقلوا هذه الاعمال، رجال شجعان وكبار الانفس. وقد تساءلت في نفسي عن شجاعة (ووقت) رجل يجلس ليترجم دانتي، او ليدرس مدى تأثره بفلسفة ابن رشد. وكان البابا يوحنا الثاني والعشرون قد امر باحراق كتابه «في الملكية» في ساحة بولونيا العامة، لان عالماً ايطالياً اتهمه بانه خلاصة فكر ابن رشد.

الى اللقاء.