المهدية الثالثة

TT

بعد تردد قارب الثلاثة عقود من الزمان حسم الصادق المهدي امره وقرر تولي امامة طائفة الانصار، وذلك في خطوة تفتح الباب امام اتجاهات متعددة ومتضاربة، كما انها تتيح فرصا بقدر ما تثير من مخاطر، تتجاوز الانصار كطائفة وحزب الامة كوعاء سياسي لتلقي بتأثيرها على السودان كله.

إمامة الصادق كانت مطروحة منذ وفاة والده الصديق، وهو الامام الثاني في ايلول (سبتمبر) العام 1961، بل كان هناك ميل عام لدى اعضاء اللجنة المكلفة اختيار الامام الى توليته المنصب، لولا حضور عبد الله الفاضل المهدي السريع من القاهرة، الذي سحب نفسه من قائمة المرشحين وبايع الهادي اماما. وبمقتل الهادي في مواجهة مع قوات الرئيس الاسبق جعفر النميري في العام 1970 على الحدود الاثيوبية، انفتح الطريق امام الصادق لتولي الامامة، لكنه آثر التأجيل طوال هذه الفترة لسببين رئيسيين: ان بواكير عمله السياسي شهدت مواجهة له مع عمه الهادي ودعاوى عديدة لتقليص الوجود الديني المباشر في الممارسة السياسية وتوليه منصب الامامة يجعله مناقضا لكل ما كان يدعو اليه. وثانيهما انه كان يسعى الى تحديث طائفة الانصار واجهزتها ونقلها من الرعاية الابوية الى المؤسسية عبر اقامة هيئة شؤون الانصار، التي تشرف على اقامة كليات انتخابية يوكل اليها امر اختيار امام الانصار، مع الامل في ان يتم ذلك توافق في اطار اسرة المهدي.

ومع ان هذه الهيئة قامت وترسخ نشاطها منذ اكثر من عقدين من السنين، وتراجع حالة المواجهة مع الانظمة العسكرية، وعودة البرلمانية بكل الحريات المصاحبة بل وتوليه شخصيا رئاسة الوزراء، الا انه لم يتقدم لحسم امر الامامة. فما الذي جد الآن ليدفعه الى اتخاذ الخطوة التي تأجلت طويلا؟

قبل 32 شهرا بالضبط كتبت مقالا في هذا المكان طالبت فيه الصادق المهدي القيام بانسحاب منظم من الحياة السياسية والنأي بنفسه عن المناصب التنفيذية لاعداد انتقال سلس في قيادة حزب الامة والاهتمام بأمر طائفة الانصار، اذ ان الطائفية اصبحت تمثل عنصرا مهما في مواجهة حالة الانبعاث القبلي الحالية الناجمة عن فشل المشروع التحديثي في السودان. لهذا اجد نفسي في خانة الترحيب بهذه الخطوة، خاصة وضعت اساسا شوريا ومؤسسيا لحسم مسألة امامة الانصار، وهي خطوة مهما كان الرأي فيها، الا انها تمثل لبنة يمكن تطويرها وتفعليها بصورة اكبر.

لكن تبقى بعض الملاحظات الرئيسية.

ان الخطوة تأتي في ظل انقسام واضح في طائفة الانصار نفسها عبر عنه التنازع على وضعية الامامة، اذ ينافس الصادق عمه احمد المهدي، آخر ابناء باني المهدية الحديثة الامام عبد الرحمن من المهدي الذين لا يزالون على قيد الحياة. وهناك ايضا ولي الدين، ابن الامام الراحل الهادي، الذي يدعي ان والده لا يزال غائبا، وبالتالي لا يمكن تسمية امام جديد مكانه. ولي الدين ظل على هذا الرأي منذ مقتل والده، لكن نجاح الصادق في العثور على رفات الامام الهادي واعادة دفنه في قبة المهدي بام درمان، اضعف حجة ولي الدين، لكن الاشارة الى الانقسام في اسرة المهدي، وهو الامر الذي يحدث لاول مرة وبهذه الحدة. فلاول مرة تنتقل الامامة من ابناء الامام عبد الرحمن الى الجيل الثاني، وفي الجيل الثاني يتعدد التنافس بمختلف الاوجه وعلى مختلف المواقع ومن بينها موقع الامامة. ومع الاقرار العام بأن اغلبية الانصار مع الصادق، الا ان وجود مجموعة لا تقر الإمامة، وهو ما يحدث لاول مرة في تاريخ الطائفة، سيؤثر على فعاليتها بلا شك.

كذلك جاء الاختيار وسط انقسام سياسي واضح في حزب الامة، الذراع السياسي لطائفة الانصار، عبر عنها انشقاق مجموعة الاصلاح والتجديد بقيادة مبارك المهدي. ومع ان حزب الامة شهد انقسامات من قبل، كان بطلها الصادق نفسه وفي مواجهة عمه الامام الهادي، الا ان الامامة ظلت المرجعية المتفق عليها. وبسبب ثقلها ذلك الذي كلف الصادق نفسه مقعده البرلماني عام 1968، تم فتح الباب امام توحيد الحزب في ما بعد تحت رعاية الامام الهادي.

الخطورة هذه المرة ان الامامة تكاد تكون احدى الوسائل المتخذة لحسم الصراع داخل الحزب، الامر الذي يضعف قدرتها على اعادة توحيده. ويساعد على تأكيد هذا الشعور بعض الاختيارات التي تمت في مؤسسات هيئة شؤون الانصار لشخصيات طغى اداؤها السياسي على دورها الانصاري الدعوي مثل الامير نقد الله ونصر الدين المهدي، وكأن الخطوة تشحذ القدرات السياسية لدعم الطائفة لا العكس، ومن ثم تهيئتها لخوض صراع ضد المنشقين عن الحزب.

ظهرت المهدية في السودان في اواخر القرن التاسع عشر وفي اطار حركات اصلاحية شهدها العالم الاسلامي. وتمثلت عبقرية الامام المؤسس محمد احمد المهدي في نجاحه في اعادة غرس فكرة شيعية في الاساس في بيئة سنية، وتجيير حالة المظالم التي كان يعيشها السودان تحت ظل التركية السابقة لبعث الوطنية السودانية في اول صورها، التي نجحت في الانتصار واقامة دولتها، التي لم يعش بعدها المهدي نفسه لاكثر من ستة شهور.

سنوات حكم الخليفة عبد الله التعايشي التالية شهدت انقساما كبيرا في الصف الوطني فتح الباب بين عوامل اخرى الى اعادة فتح السودان بواسطة جهد بريطاني ـ مصري مشترك، وهو الوضع الذي تعاملت معه المهدية الحديثة بقيادة الابن الوحيد الباقي للمهدي الكبير عبد الرحمن، الذي اتبع اسلوب العمل السياسي المتدرج بل والتعاون مع الانجليز مع التركيز على البناء الاقتصادي، وذلك لتحقيق هدفه الكبير لجمع شتات طائفة الانصار وجعلها رقما في الحياة السياسية في السودان وتتويج ذلك بتحقيق الاستقلال، وهو ما نجح فيه الى حد كبير. امامتا الصديق والهادي حافظتا الى حد كبير على الخطوط التي وضعها والدهما الامام عبد الرحمن خاصة لجهة ابقاء مسافة بين الامامة وحزب الامة.

فترة الثلاثين عاما التي مضت على شغور منصب الامامة لم تكن فاصلا زمنيا فقط، وانما تغيير لبيئة وضعت المهدية في فترتها الثالثة امام معطيات وتحديات جديدة. فهل تتجه امامة الصادق الى تعظيم دورها القومي، ام اتخاذ الموقع سلاحا رئيسيا لحسم معاركه السياسية؟ حتى الآن تتالى الاشارات من كل الجهات. فجهد الصادق الفكري والسياسي لحشد الارادة الشعبية دعما لخيارات التحول الديمقراطي والسلام يرفد الخيار الاول، ومؤتمر حزب الامة المقرر عقده الشهر المقبل ربما يعطي اشارة نهائية في ما يخص معركته السياسية الداخلية.

والامل ان يتخذ الصادق من موقعه الجديد، الذي قبله على مضض كما قال، منطلقا لاعادة توحيد الحزب، ومن ثم الطائفة، ووضع سابقة في الحياة السياسية السودانية بالتخلي طوعا عن الزعامة الحزبية، الامر الذي يزيد من فرص تأثيره في إحداث التحول المرتقب في البلاد وتمتين مؤسسات المجتمع المدني التي يؤمل ان تكون احد المرتكزات القوية للسودان الجديد.