أشبعتهم شتما.. وفازوا بالإبل!

TT

إذا كان صحيحاً أن تركيا، إذا وقعت الحرب، ستدخل شمالي العراق بسبعين ألف جندي، وأن هؤلاء سيحتلون الموصل وقد يصلون إلى كركوك، فإن على العرب، وفي مقدمتهم العراقيون، أن يستعدوا لقرن كامل من الحروب والصراعات، فجيوش تدخل بهذا الحجم إلى دولة لا أحد يستطيع التكهن بمصيرها لا يمكن إخراجها بالقول: «شكراً.. وفي أمان الله».

الكل يعرف، وهذا شيء مُعلن وكرّره كبار المسؤولين الأتراك في السابق واللاحق، أن لتركيا أطماعاً في شمال العراق وأنها دأبت على الادعاء بأن الموصل، الولاية والمدينة، جزء لا يتجزأ من أراضيها، وآخر ما قيل بهذا الخصوص، قاله وزير الدفاع التركي قبل أسابيع فقط، ولم يرد عليه سوى الزعيم الكردي مسعود البارزاني.

ليس مؤكدا أن هذه الأعداد من الجيوش التركية ستدخل العراق إذا بدأت الولايات المتحدة الحرب التي تَعِد وتهدّد بها. وكان الأكراد، مسعود البارزاني على وجه التحديد، قد تلقوا تأكيدات أميركية أكثر من مرة بأن الأتراك لن يدخلوا عسكرياً شمالي العراق وأن كل المطلوب منهم مجرد الاسناد «اللوجستي» وفتح القواعد المطلوبة أمام القوات الأميركية.

هذه التأكيدات وصلت إلى الأكراد على لسان أكثر من مسؤول أميركي، ولا نعرف ما إذا كانت وصلت إلى أي طرف عربي بما في ذلك العراق، والثابت أن الأكراد لن يسكتوا على هذا الأمر، لأن دخول قوات تركية بهذا الحجم إلى شمال العراق سيعني أنهم سيكونون كمن خرج من تحت «الدلف» إلى تحت المزراب وأنهم لن يتمتعوا بالحكم الذاتي الذي ينتظرونه ولا بالفيدرالية التي يسعون إليها وأن مصيرهم سيصبح جزءاً من مصير أشقائهم، أكراد تركيا، الذين يشكون من مصادرة حقوقهم القومية والثقافية والإنسانية.

لن يسكت الأكراد العراقيون ولن يلوذوا بالصمت ويركنوا إلى السكينة إذا دخلت قوات تركية إلى شمالي العراق، إنْ بهذا الحجم وإن بأقل منه، وهم سيصعدون إلى الجبال وسيبدأون حرب العصابات على الفور، لكن هذا لا يكفي، وعلى العرب أن لا يتركوا الأكراد وحدهم، بل عليهم أن يتحركوا منذ الآن وقبل أن تصل الأمور إلى مرحلة الاضطرار إلى حلّ العقدة بالأسنان بدل حلها بالأصابع.

إن مشكلة العرب، كلهم وبدون استثناء، أنهم يتعاملون مع أزمة طاحنة كأزمة العراق على طريقة المُصاب بمرض مُعيب الذي يستمر في رفض الاعتراف به حتى لأهله وللأطباء إلى أن يأكله المرض وتصبح المعالجة متأخرة جداً وبدون أي فائدة أو جدوى.

ربما لدى العرب الرغبة، لكن ليس لديهم القدرة، لمنع حرب يبدو أنها باتت واقعة لا محالة، ولهذا فإن المطلوب هو البحث عن موقف آخر غير هذا الموقف الذي يكتفي بالشجب والاستنكار وذرف الدموع الساخنة والسخية على «الشعب العراقي الشقيق.. وعلى بلاد الرافدين الأبية والعزيزة».

غير الولايات المتحدة والدول الطامعة بنفط العراق وأسواقه وخيراته التي تكتفي بتسجيل المواقف المخادعة والكاذبة والتي تذرف دموعاً كدموع التماسيح، فإن هناك ثلاث كتل إقليمية من المفترض أن لا تقف متفرجة بينما يجري تحديد مصير دولة رئيسية وعلى هذا النحو، وهذه الكتل، إذا استثنينا إسرائيل على اعتبار أن تطلعاتها تندرج ضمن الخطة الأميركية، هي: الكتلة العربية والكتلة الإيرانية والكتلة التركية.

وهنا فإن ما لا جدال فيه على الإطلاق، أنه إذا كان صحيحاً أن تركيا ستشارك في الحرب المرتقبة بسبعين ألف جندي سيندفعون باتجاه الموصل وكركوك وسيحتلون شمال العراق، فإن إيران لن تبقى صامتة ولا مكتوفة الأيدي، فأهم أسس الاستراتيجية الإيرانية منذ عقود ماضية بعيدة أن لا يتمدد الأتراك لا نحو الجنوب ولا نحو الشرق، وأن يبقوا ينشغلون بالتناحر مع روسيا التي أصبحت الاتحاد السوفياتي، ثم عادت روسيا مرة أخرى، وبمشاكلهم الداخلية الكثيرة ومن بينها مشكلة الأكراد التي بقيت منذ عصر الخلافة العثمانية وحتى الآن عبارة عن ضرس ملتهب في الفك التركي المريض.

إذا دخلت تركيا إلى شمالي العراق بسبعين ألف جندي أو بأكثر أو أقل فإن القوات الإيرانية ستندفع عبر الحدود العراقية على الفور ومن مناطق متعددة، وسيتحول العراق إلى بؤرة جديدة لصراع تركي ـ إيراني، كذلك الصراع التاريخي بين الصفويين والعثمانيين، وسيجد العرب أنفسهم على الرصيف لا يملكون إلا التحسر والعويل وضرب الكف بالكف والبكاء على «الوطن السليب».

لا بد من أن يبادر العرب، الذين يهمهم هذا الأمر، إلى وقفة جدية وحاسمة مع الولايات المتحدة لحملها على التخلي عن نية إشراك تركيا في الحرب القادمة على العراق إذا كانت هناك نية بالفعل بهذا الخصوص، أما ان يتواصل هذا «الحياد» غير الإيجابي بينما يتقرر مصير دولة عربية رئيسية وكأن ما يجري يستهدف مستقبل «مايكرونيزيا» وليس مصير واحدة من أكثر الدول العربية أهمية، فإن هذا ان لم يكن جريمة فإنه يرتقي إلى مستوى الجريمة.

ليست هناك إمكانية لمواجهة حرب الولايات المتحدة المرتقبة والقريبة بحرب مضادة لأسباب كثيرة جدا، كلها معروفة، ولذلك وبما أن السباحة ضد التيار غير ممكنة، فإن المطلوب يصبح هو السباحة مع هذا التيار، وهو أن يدخل العرب في الوحل إذا كان الغوص في هذا الوحل يؤدي إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه ويحول دون أن يصل الأتراك بكل هذه القوات العسكرية المذكورة الى منطقة عربية لهم فيها أطماع قديمة وجديدة.

قد تكون فكرة مجنونة وغير مستساغة، ولكن أليس من الأفضل يا ترى أن تدخل مع الداخلين إلى العراق قوات عربية، إذا كان البديل احتلالاً تركياً سيتحول إلى شوكة موجعة في الخاصرة لا محالة؟..

لو أن الأماني وحدها تقرر مصائر الشعوب فإن أمنيتنا هي أن لا تقع هذه الحرب إطلاقاً وأن لا يشارك الأتراك لا بقوات صغيرة ولا بقوات كبيرة ولا بأي شكل من الأشكال إذا كانت هذه الحرب قدراً لا رادّ له. أما وان الأماني هي مجرد أحلام يقظة، فإن على العرب أن يتخلوا عن هذا «الحياد» القاتل وأن يبحثوا عن طريقة يؤثرون من خلالها في الأحداث حتى وإن كانت هذه الطريقة هي السباحة مع التيار وليس ضده.

وهنا، ودفعاً لأي لبس أو التباس، فإن المقصود بالسباحة مع التيار وليس ضده هو ليس دعوة العرب للمشاركة في هذه الحرب جهاراً ونهاراً فهذه مسألة صعبة وفكرة غير معقولة ولا مقبولة رغم أن معظم العرب شاركوا بقوات إلى جانب القوات الأميركية في حرب الخليج الثانية، انما المقصود هو أن لا تبقى الدول العربية تتمسك بهذه المواقف «الابتعادية» وكأن هذا الذي من المتوقع أن يجري سيجري في قارة بعيدة.

إذا دخلت تركيا الحرب بكل هذا الحجم الذي يجري الحديث عنه فإنها ستفرض نفسها شريكاً رئيسياً في تقرير مستقبل العراق، وإذا ردت إيران بتدخل مماثل فإنه سيكون لها الدور نفسه، فالأدوار في مثل هذه الحالة تنتزع انتزاعاً، اما المتفرجون فلن يكون لهم أي دور وسيبقون متفرجين وغيرهم يرسمون مصير دولة أساسية ورئيسية في هذه المنطقة.

كل طرف يشارك في أي حرب من الحروب سيكون له نصيبه من الغنائم وسيشارك حتماً في رسم السياسات المترتبة على هذه الحرب، فهذا ما فعله اليهود عندما شاركوا في الحرب العالمية الثانية بقوة مع أنها كانت رمزية وصغيرة إلا أنها وضعتهم على خريطة الأحداث والتطورات اللاحقة.

هناك مثل عربي يقول: «اشبعهم شتماً لكنهم فازوا بالإبل»، والمهم في هذه المرحلة الخطيرة والحرجة ليس التباري في شتم الولايات المتحدة والتغني في وصفها بأنها امبريالية وشيطان أكبر وتركها وحدها تقرر مصير ومستقبل العراق.. إن الأهم والأجدى من الشتم هو أن يفرض العرب وجودهم على خريطة الأحداث وأن لا يتركوا مصير العراق يتقرر بحجة أنهم لا يريدون تلويث أنفسهم.

إذا كان غير ممكن منع اندلاع هذه الحرب فيجب على العرب أن يكون لهم دور فاعل في تحديد اتجاهات نتائجها، اما الابتعاد بهذه الطريقة وترك دولة ذات أطماع قديمة وجديدة هي تركيا أن تندفع داخل الأرض العراقية بكل هذا الحجم الذي يجري الحديث عنه فإن هذا هو التخلي عن المسؤولية القومية، وان هذا هو الذي سنندم عليه ولكن عندما لن ينفع الندم.

لا بد من أن يجد العرب وسيلة، إن ليس عسكرية فسياسية، وإن ليس مع الولايات المتحدة وحدها فمع القيادة العراقية والإدارة الأميركية، ليكون لهم وجودهم الفاعل على خريطة مستقبل العراق، فالأخطار المتوقعة والمرتقبة كبيرة جداً والتاريخ لا يرحم، والمهم، قبل الحكام والأنظمة، أن يبقى العراق بحدوده التاريخية، دولة عربية موحدة، والمهم أن لا يتحول هذا البلد العزيز العريق إلى ميدان للتسويات وتصفية الحسابات الإقليمية.