قناع لا يتسع لوجهين!

TT

«... وظل الوزير دونالد رامسفيلد يرفع صوته وهو يوبخ الإسرائيليين الواقفين أمامه حتى اضطر رئيس الوفد الوزير دان ميريدور إلى أن يطأطئ رأسه حرجا وخجلا».

لا يشكل هذا الكلام الذي نشر في إسرائيل دليلاً على خلاف مع أميركا، كما قد يتبادر إلى أذهان البعض، بل يشكل نكتة الموسم الأكثر سماجة والتي سمعناها في الفترة الأخيرة.

بدأت هذه القصة في السابع عشر من الشهر الماضي، عندما نشر الصحافي الإسرائيلي ألوف بن مقالين متتاليين في صحيفة «هآرتس»، تحدث فيهما عن خلفيات المفاوضات الإسرائيلية ـ الأميركية، التي اتّخذت بُعدا واسعا، بعد زيارة آرييل شارون الأخيرة إلى واشنطن في 16/10/2002.

فقد ترأس دان ميريدور وفدا اسرائيليا أجرى مباحثات مسهبة، شملت مسؤولين ومخططين في وزارتي الخارجية والدفاع الأميركيتين. وبرغم ان البيت الأبيض كان قد طلب من تل أبيب، عدم الحديث عن التنسيق بين البلدين بشأن الحرب على العراق، وتلافي اطلاق أي تصريحات حول هذا الأمر، الذي يسبب حرجا للادراة الأميركية في العالم العربي، فقد جاءت المعلومات التي نشرتها «هآرتس» مثيرة تماما ومعاكسة.

في الواقع لم يقل الشيء الكثير، عندما كشف ان وحدات كوماندوس إسرائيلية، انضمت إلى قوات أميركية مشابهة، وصلت إلى مناطق في غرب العراق، وان بعض أفراد هذه القوات تسلل إلى داخل بغداد.

وهو لم يكشف الكثير عندما قال ان المباحثات الأميركية ـ الإسرائيلية تطرقت إلى الوضع السياسي، الذي سيحكم بغداد بعد صدام حسين، مع ان كلامًا من هذا النوع، يفتح نوافذ الاحتمالات على مستقبل الأوضاع السياسية على المستوى الاقليمي.

ولا ندري في الواقع ما الذي دفع المسؤولين الأميركيين إلى تضخيم الأمور، عندما نقلت الوكالات من واشنطن الأنباء التي تحدثت عن «غضب أميركي كبير» من إسرائيل، وقرنت هذا الحديث مع واقعة توبيخ رامسفيلد للوفد الإسرائيلي كما قلنا.

إذا كان تضخيم الأمور هنا، يتم على خلفية الافتراض، ان كل خلاف من هذا الطراز يريح العرب ويطمئنهم، ففي الحقيقة لم يعد هناك ما ينطلي على أحد في هذه المنطقة، فالمعلومات التي نشرت تباعا عن تفاصيل التعاون العسكري الميداني، تتجاوز في أهميتها موضوع الكوماندوس الإسرائيلي النازل في غرب العراق، أما الحديث عن الخطط التي تستهدف دول المنطقة ومستقبلها السياسي، فيتجاوز هو أيضًا كل ما كتب عن التنسيق الاستراتيجي بين تل أبيب وواشنطن.

ولعل من المثير للسخرية، ان تأتي أخبار الاستياء الأميركي او «الغضب الكبير»، مباشرة تماما، بعد ما نشر في الرابع من كانون الأول/ديسمبر الجاري عن المناورات الأميركية ـ الإسرائيلية المشتركة التي ستجري في إسرائيل الشهر المقبل.

وإذا كانت وزارة الدفاع الأميركية، قد أعلنت ان هذه المناورات ستشمل ثلاث بطاريات من صواريخ «باتريوت ـ 2» الأميركية المعدّلة والمصمّمة لمقاومة الصواريخ المتوسطة من طراز «سكود»، فإن من الضروري ان نتذكر، ان خطط التعاون العسكري بين الجانبين، تمكّنت من انتاج صاروخ «آرو ـ 2» الإسرائيلي، الذي تكفّل الأميركيون بتمويله، ويعتبر أكثر تطورًا من «باتريوت ـ 2» الأميركي.

أضف إلى ذلك ما نشرته «جنيز ديفينس»، من ان أميركا سترسل إلى هذه المناورات، أحد أهم أسرارها العسكرية، وهو عبارة عن طراد يدعى «ايجيس» مضاد للصواريخ ما زال يعتبر من الأسرار المصنّفة.

وإذا تذكرنا مناورات «الحورية الواثقة» التي تجري بين أميركا وإسرائيل وتركيا، عشية بدء الحرب ضد العراق، يصبح واضحا ان الحديث عن التعاون بين الكوماندوس من البلدين ليس سرا يتم كشفه. وخصوصا إذا علمنا ان صحيفة «صنداي تايمز» البريطانية سبق أن تحدثت في 27 أيلول/سبتمبر الماضي عن تسلسل قوات كوماندوس إسرائيلية إلى المنطقة الغربية من العراق، لتحديد مواقع اطلاق صواريخ «سكود» العراقية. وأضافت ان محاولتين لرجال الكوماندوس الإسرائيليين أخفقتا في اغتيال الرئيس صدام حسين قرب مسقط راسه في تكريت، مشيرة إلى ان هؤلاء يتبعون الفرقة الإسرائيلية الخاصة «رقم 262».

ولكي تنكشف ابعاد «الاصطناع الصبياني» في «الغضب الأميركي الكبير» من إسرائيل، قد يكون من الملائم، ان نعود إلى يوم الأحد الموافق 11 آب/أغسطس الماضي، حيث تناقلت وسائل الاعلام العالمية، بما فيها الأميركية طبعا، المعلومات التي سرّبتها المصادر العسكرية الإسرائيلية، وفيها ان سلاح الجو الإسرائيلي يعود إلى خططه السابقة إزاء العراق، وقد بدأ بأجراء التدريبات عليها لتحسينها وتطويرها.

وفي هذا السياق، ليس مستبعدا ان يكون قد أخرج من الأدراج، خططه الموضوعة أصلاً لضرب المفاعلات النووية في ايران. ومن المعروف ان لدى الجيش الإسرائيلي خطة عسكرية جاهزة لاغتيال صدام حسين بضربة صاروخية من الجو يتبعها إنزال مظليين.

هذا هو فحوى الكلام الذي سرّبته المصادر العسكرية الإسرائيلية في آب/أغسطس الماضي، وهو بالمناسبة لا ينطوي على أي مبالغة، فمن المعروف ان خطة اغتيال صدام حسين صاروخيا، انكشفت عام 1996، عندما وقع خطأ قاتل في خلال عمليات التدرّب عليها في صحراء النقب، فقد سقط صاروخ على تجمّع للضباط من العناصر المكلفة تنفيذ الاغتيال ممّا أدى إلى سقوط أربعة قتلى وستة جرحى، وهو ما تسّرب إلى الصحافة في حينه.

وفي الحقيقة لا يغالي المرء قطعا عندما يفترض أن القناع الأميركي لا يتسع لوجهين، وجه أميركا ووجه إسرائيل، وان محاولات واشنطن للالتفاف على النقمة العربية بإزاء التنسيق مع تل أبيب في الحرب على العراق، لن تتمكن من النجاح، على الأقل لأن وقائع هذا التنسيق تملأ الآذان والأعين، فكيف يمكن الظن،مافيمجرد اصطناع الغضب من إسرائيل يمكن ان يريح العرب ويطمئنهم؟

وفي هذا الإطار تحديدا، ربما يحتاج المسؤولون في واشنطن إلى ما يرطب ذاكرتهم. فيوم الأحد الموافق 20 أيلول/سبتمبر الماضي، كشف مسؤول أميركي ان واشنطن تبحث اقتراحا اسرائيليا للقيام بعدوان مشترك في غرب العراق، طبعا تحت ذريعة التدخل لمنع العراق من اطلاق صواريخ على إسرائيل مثلما فعل في خلال «عاصفة الصحراء» عام 1991.

وللإيضاح فإن آرييل شارون هو الذي حمل هذا الاقتراح وقدمه إلى جورج بوش في خلال مباحثاتهما آنذاك. وقد كشف مصدر عسكري أوروبي نافذ في حلف الأطلسي يومها، بعض تفاصيل هذا الاتفاق، الذي يدعو أميركا إلى السماح لإسرائيل باستخدام ما تراه مناسبا من أسلحة في مرحلة متأخرة من الحرب إذا تعرضت لهجمات صاروخية عراقية.

ماذا يعني الحديث عن استخدام «ما تراه مناسبًا» من الأسلحة؟

يرد المصدر الأوروبي: انه يعني بطاقة إذن للجنون، أي لاستعمال صواريخ «اريحا ـ 1» التي يبلغ مداها 570 كيلومترا، و«أريحا ـ 2» التي يبلغ مداها 1500 كيلومتر ويمكنها أن تحمل رؤوسًا نووية تصل إلى 750 كيلومترا.

إذا، عَلاَم «يغضب» رامسفيلد، ولماذا يوبخ دان ميريدور؟ وعلى من يضحك آرييل شارون في الحديث عن فتح تحقيق في تسريب معلومات التنسيق الأميركي ـ الإسرائيلي في الحرب ضد العراق؟

لماذا كل هذه الأكاذيب المصطنعة في واشنطن وتل أبيب؟ أولم يقرأ أحد من المسؤولين في البلدين ما قاله الرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر في 14/10/2002: «نحن في السرير مع الإسرائيليين، ولم نعد نتكلم حتى مع قادة الفلسطينيين؟!».