عسكريون يقلبون صفحات سوداء في تاريخ تونس

TT

لأول مرة، وبمناسبة مرور أربعين عاما على أول انقلاب عسكري ضد الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، دعت مؤسسة د. عبد الجليل التميمي للبحث العلمي والمعلومات اواخر شهر اكتوبر/ تشرين الأول 2002، البعض من معدي ومدبري الانقلاب، مثل السادة محمد صالح البراطلي وعلي بن سالم وقدور بن يشرط وتميم الحمايدي ليقدموا شهاداتهم حول الاسباب التي دفعتهم الى القيام بذلك، وايضا حول سنوات السجن الطويلة القاسية والمؤلمة. وقد استمع الى هذه الشهادات عدد هام من المؤرخين والمهتمين بتاريخ الحركة الوطنية وتاريخ تونس الحديث. وكان ذلك أمرا ايجابيا للغاية، اذ انه سمح للتونسيين بفتح صفحة سوداء في تاريخهم خلال مرحلة ما بعد الاستقلال. وقد ظلت هذه الصفحة على مدى اربعين عاما مسربلة بالغموض، وظل الخوض في شأنها، خصوصا خلال فترة حكم الرئيس بورقيبة التي استمرت ازيد من ثلاثين عاما، أمرا شائكا، بل مستحيلا.

سبق الانقلاب العسكري الذي كان يستهدف تصفية الرئيس بورقيبة جسديا وتقويض نظامه، والذي احبط مطلع شهر ديسمبر/كانون الاول 1962، حدثان هامان عاشتهما تونس مطلع الستينات. الاول اغتيال صالح بن يوسف في مدينة فرانكفورت الالمانية في شهر اغسطس/ آب 1961 من قبل اجهزة الاستخبارات التونسية، وبتحريض من المقربين من الرئيس بورقيبة وبتأييد منه شخصيا، وكان ذلك اول حادث اغتيال سياسي تعرفه تونس بعد استقلالها. ومن قبل ذلك لم تعرف له مثيلا غير اغتيال الزعيم النقابي الكبير فرمات حشاد مطلع شهر ديسمبر 1954 والذي كان من تدبير «اليد الحمراء الفرنسية». وقد انهى حادث الاغتيال المذكور صراعا مريرا بين بورقيبة وخصمه اللدود ومنافسه الاخطر على زعامة البلاد، اعني بذلك الزعيم صالح بن يوسف.

وقد بدأ هذا الصراع قبل الاستقلال، اي خلال مرحلة النضال الوطني ضد الاستعمار الفرنسي، غير انه استفحل عام 1955، عندما قبل بورقيبة بصيغة الاستقلال الداخلي التي رفضها صالح بن يوسف رفضا قاطعا معتبرا اياها «خيانة» للنضال الوطني لا في تونس وحدها، بل في كامل منطقة المغرب العربي. غير ان بورقيبة المعروف بقدرته الفائقة على المناورة تمكن من اخماد ما كان يسميه بـ «الفتنة اليوسفية» دافعا بخصمه اللدود الى اللجوء الى مصر باحثا عن العون عند الرئيس جمال عبد الناصر. أما المتعاطفون معه فقد قتل الكثير منهم في حين زج بمن تبقى منهم في السجون ليتعرضوا الى عمليات تعذيب وحشية سوف تترك في قلوبهم ضغينة ضد بورقيبة ونظامه لن تنمحي ابدا. وكان اغتيال الزعيم صالح بن يوسف محرضا اساسيا لانصاره لكي يشرعوا في الحين في الاعداد لانقلاب عسكري يقضي على بورقيبة ونظامه.

أما الحدث السياسي الكبير الثاني الذي عاشته تونس مطلع الستينات فهو الصدام الدموي بين القوات الفرنسية المتمركزة في مدينة بنزرت الواقعة شمال تونس، والجيش التونسي المدعوم من قبل متطوعين جلبوا من جميع انحاء البلاد دون ان تكون لهم دراية لا بالحرب ولا بالسلاح. وكانت «حرب بنزرت» كما اصبحت تسمى خطأ فادحا ارتكبه بورقيبة قبل ان يرتكب ذلك الخطأ الفادح الآخر، اعني بذلك دعمه لاشتراكية احمد بن صالح التي اصبحت كارثة اقتصادية بالمعنى الحقيقي للكلمة. ويبدو ان خوفه من خصمه اللدود صالح بن يوسف المدعوم من قبل الرئيس المصري عبد الناصر ومن قبل الوطنيين الجزائريين بزعامة احمد بن بله هو الذي جرّ بورقيبة الى ارتكاب مثل ذلك الخطأ المريع. فلكي يقطع الطريق على خصمه الذي كان يرغب في استغلال بعض الاوضاع الداخلية في الجمهورية الفتية التي كان عمرها ثلاث سنوات فقط، ويثبت للشعب انه يستحق لقب «المجاهد الاكبر» عن جدارة، تخلى بورقيبة فجأة عن سياسة الحوار التي كان ينادي بها دائما، وحتى في احلك الظروف، ورفع صوته عاليا مطالبا القوات الفرنسية بالجلاء عن مدينة بنزرت، حيث كانت لها قواعد عسكرية. وفي صيف 1961 الحارق، عبئت شاحنات بمتطوعين جمعوا من المزارع ومن القرى والفيافي البعيدة ليحملوا الى مدينة بنزرت ولا سلاح لديهم غير حماسهم الوطني الذي كانت تغذيه المطربة علية التي كانت تردد طول الوقت: «بني وطني يا جنود الفداء». وهكذا اندلعت فجأة وبدون اي اعداد او تنظيم معركة غير متكافئة بين القوات الفرنسية التي كانت تملك احدث الاسلحة، وبين الجيش التونسي الفقير في الخبرة والمعدات والمدعوم بمتطوعين جلهم من الريفيين الأميين. وكانت النتيجة سقوط قرابة 6000 شهيد في وقت قصير للغاية! وقد ملأت هذه المعركة غير المتكافئة مع القوات الفرنسية قلوب بعض كبار الضباط الثوريين غيظا ضد بورقيبة ونظامه. وهذا ما يفسر انضمامهم الى انصار صالح بن يوسف ومشاركتهم في الانقلاب المذكور. وثمة سبب آخر حرض العسكريين واليوسفيين على التفكير بالاطاحة ببورقيبة وبنظامه، وهو يتمثل في تلك الخيبة المرة التي مـُني بها عدد كبير من الوطنيين القدامى الذين وجدوا انفسهم عقب الاستقلال، مهمشين ومقصيين ومنسيين، في حين راح بعض الانتهازيين والوصوليين يتسلقون السلم بسرعة فائقة، ويحصلون على الامتيازات والوظائف الكبيرة، مستخدمين بهدف الوصول الى مآربهم كل وسائل التملق لبورقيبة ونظامه. وقال احد هؤلاء من الذين شاركوا في الانقلاب وجاءوا الى مؤسسة د. عبد الجليل التميمي للبحث العلمي والمعلومات للادلاء بشهاداتهم: «لقد عاث الوصوليون والانتهازيون، خصوصا التابعين لما كان يسمى بـ «لجان الرعاية» المكلفة بتصفية خصوم بورقيبة، اليوسفيين منهم تحديدا، فسادا في كل المدن والقرى والارياف. وانقلب بورقيبة فجأة ضد المبادئ التي كان يدعو اليها قبل الاستقلال، وايد قتل خصومه والتنكيل بهم. حتى ان المؤيدين له مثل المنجي سليم، اقروا انه بالغ في هذا السلوك واضاف آخر قائلا: «لقد سعى بورقيبة، وبكل الطرق، ليكون الزعيم الوحيد للبلاد واراد ان يعود شرف النضال له وحده فقط. وهذا في اعتقادي سلوك اناني يتناقض مع مصالح المناضلين الحقيقيين والشعب».

وينقسم مدبرو انقلاب ديسمبر/ كانون الاول 1962 الى مجموعتين: المجموعة الاولى تتكون من مدنيين جلهم من انصار صالح بن يوسف من امثال الشيخ عبد العزيز العكرمي، الاستاذ بالجامعة الزيتونية التي اغلقها بورقيبة عام 1956، والرأس المدبر للانقلاب، والازهر الشرايطي، المناضل الوطني القديم او من الغاضبين على سياسة النظام وعلى «مجزرة بنزرت» كما يسمونها. وجميع المنتسبين لهذه المجموعة ينتمون الى مناطق الجنوب، خصوصا مدينة قفصة، والى مدينة بنزرت. اما المجموعة الثانية فتتألف من عسكريين تخرجوا من مدرسة «سان سيرا» العسكرية الفرنسية، مثل محمد الحبيب بركية ومحمد ميزة والمنصف العاطري وآخرين عملوا في الجيش السوري او في الجيس المصري مثل عمر البنبلي، المعجب بجمال عبد الناصر او بتجربته الثورية وثمة عسكريون شاركوا في الانقلاب المذكور كانوا قد عملوا في الجيش الفرنسي مثل عبد الصادق بن سعيد وكبير المحرزي المكلف بحراسة قصر بورقيبة.

وبعد احباط الانقلاب بسبب وشاية أحد المشاركين فيه، مثل مدبروه امام المحكمة فاصدرت بحق البعض منهم مثل الشيخ عبد العزيز العكرمي والازهر الشرايطي ومحمد الحبيب بركية حكما بالاعدام، اما بالنسبة للآخرين فتراوحت الاحكام الصادرة في شأنهم بين عامين والاشغال الشاقة المؤبدة.

وقد شن بورقيبة هجوما عنيفا على مدبري الانقلاب واصفا اياهم بـ «الرجعيين الذين ران على قلوبهم شعور بالخيبة والتأخر عن ركب الزمن» وبالرغم من ان الحزب الشيوعي التونسي كان قد ادان بشدة المحاولة الانقلابية «الغريبة عن نظريتهم وعن سياستهم التي هي سياسة معارضة ديمقراطية «كما جاء في بيانهم الصادر يوم 27 ديسمبر/ كانون الاول 1962، فإن بورقيبة حشرهم ضمن مدبريها. وهذا ما سيسهل عليه خطر الحزب الشيوعي التونسي يوم 8 جانفي/ يناير 1963، اي بعد مرور شهر وبضعة ايام على الانقلاب الفاشل، كما سيسهل عليه تحجير الاحزاب الاخرى، ليجعل البلاء في قبضة حزب واحد، هو الحزب الذي سيسمى بعد مؤتمر بنزرت في عام 1964، الحزب الاشتراكي الدستوري، وليصبح هو الحاكم المطلق.

وفي شهاداتهم روى من تبقوا على قيد الحياة من المشاركين في الانقلاب المذكور قصصا مؤلمة عن تجربة السجن الطويلة التي عاشوها. وقال احدهم: «لقد كانت محاكمتنا صورية بأتم معنى الكلمة ذلك انه ولا واحد منا منح فرصة الدفاع عن نفسه. اما فترة السجن الطويلة فكانت مهولة، اذ لا أحد يمكنه ان يتصور كيف يتمكن سجين من امضاء سبع سنوات كاملة وهو مقيد بقيد حديدي طوله ثمانون سنتيمترا فقط، مشدود الى الحائط!». واضاف نفس الشاهد قائلا: «في زنزانة مظلمة تشبه الكهف تقع 37 درجة تحت الارض ذقنا المر على يد مدير السجن. وكان الجوع يعذبنا طول الوقت. وبرغم قساوة البرد فاننا كنا بلا احذية. وكنا نبقى دون استحمام سبعة اشهر كاملة».

لقد كان بورقيبة المتشبع بالثقافة الغربية في اعلى مستوياتها، عصريا في خطابه وفي عمله السياسي. واليه يعود الفضل في بناء دولة حديثة في تونس، وفي عهد التعليم وفي تحرير المرأة وفي القضاء على العديد من العادات والتقاليد البالية التي كانت تعرقل مسيرة التقدم والتطور. غير ان هذا لا يمنع من انه كان حاكما مستبدا، يرفض الرأي الآخر، ولا يتورع عن قتل خصومه والتمثيل بهم بطرق فظيعة وبشعة.