2002: عام الثأر من الأب

TT

لدى ظهور الجزء الاول من مذكرات الدكتور سهيل ادريس، كتبت هنا عرضا مختصرا لشباب صاحب «الآداب». وقد توقفت طويلا وترددت كثيرا امام القسم المتعلق بوالد المؤلف، اذ يكشف ادريس ان والده كان يأتي الى المنزل العائلي احيانا ومعه صبي اشقر البشرة ثم يغلق الباب دونهما. في البداية قرأت غير مصدق، ثم اعدت القراءة. وعندما نقلت المقطع المتعلق بالامر، اعدت قراءة الكتاب مرة اخرى. ثم سألت نفسي، هل لي ان انقل «واقعية» سهيل ادريس الى قراء لا يتقبل جلهم الواقعات الواقعيات؟ في العادة اتجنب ذلك واجتنبه، لكننا امام حدث روائي أدبي لا أمام حادثة اباحية. فهذا الرجل الذي لعب دورا اساسيا في الحركة الادبية العربية طوال نصف قرن، يطلق النار على صورة ابيه وينزلها عن الجدار. وهنا، في المذكرات، لا يكتفي بان يغفل ذكره كما فعل في رواياته، بل هو يصوب النار ويطلق رصاصة النقمة. وبعد ظهور المقال دعاني الى الغداء المهندس حسيب الصباغ، وهو رجل غارق في السياسة والاعمال وبعيد عن مجتمع الادباء، وكان من ضيوفه استاذ الادب العربي في الجامعة الاميركية الدكتور محمد يوسف نجم. وقال لي المضيف ان «الفاكسات» تتناقل المقال غير مصدقة، فهل كنت مضطرا الى الاشارة الى ذلك؟

كان جوابي، انني «نقلت» وليس «ألفت». ولو ان سهيل ادريس لم يرد للناس ان تعرف بصورة ابيه لما اشار الى الامر. لكنه رجل يحمل هذه المرارة في قلبه منذ سبعة عقود، وقد تعمد ان يذرها امام الناس لكي يتخفف من الحمل الثقيل. وكل ما فعلته بدوري، هو انني جعلت للصوت صدى هو الصدى الذي يطلبه ويرتجيه. لم يكن سهيل ادريس، اول اديب عربي او غير عربي، يتعرض لصورة الأب. انه منحى قديم في آداب العالم. لقد الغى جبران خليل جبران ذكر الاب العربيد المستخف، في كل ما كتب، ومضى في تمجيد صورة الام وحنانها. ومن اجل امه بدت المرأة في اعماله جميعا امرأة مظلومة، من الزوج والأب والمجتمع برمته. وفي رسائله الى ابيه، يحاكم فرانز كافكا والده بقساوة شديدة، ويحاول الهروب منه الى طفولة سعيدة في كنف امه. وكذلك يفعل الكاتب الروسي تورغنيف، والشاعر الفرنسي جاك بريفير، الذي يقال انه كان المؤثر الاكبر على نزار قباني. وقال المسرحي الفرنسي انطونان ارتو جملة ذهبت مثلا حين قال «عشت 27 عاما في كراهية غامضة للأب».

لكن لم يكن ذلك حال جميع الادباء. فقد مجّد فيكتور هوغو صورة «والدي ذلك البطل ذو الابتسامة العذبة». ومضى الى ابعد من صورة الاب ليمتدح في صفاء صورة الجد. وقال الشاعر الالماني نوفاليس ان الطفل لا يشعر بالامان الا في غرفة الأب، فيما كتب الشاعر الفرنسي مونترلان ان «غضب الاب يظل اكثر حنانا بكثير من الحب الحنون الذي يكنه الابن لأبيه».

تغيرت صورة الأب عند نجيب محفوظ، من الحنان الى الفظاظة الى الاهمال، بعكس ما هي لدى الروائي الذي كان الاكثر تأثرا به، اي دوستويفسكي. فصورة الاب لدى الروائي الروسي في «الاخوة كارامازوف» هي الاب المتوحش المبتذل الملتهم الذي يبرر الكاتب قتله على يد ابن مختل بتحريض من ابن معتل. ولم يفعل سهيل ادريس اكثر من انه كشف صورة اب مريض في مجتمع مريض. فهو سوف يقول في ما بعد في «الحي اللاتيني» انه ذهب الى باريس بحثا عن المرأة وهربا من مجتمع الكبت حيث يغرم الشبان ببعضهم البعض.

كانت تلك ثلاثينات القرن الماضي. لكن من اخطأ قد اخطأ. ومن اخطأ امام ابنائه فقد ارتكب الذنب مضاعفا. ويكتب سهيل ادريس عن اشقائه وشقيقاته وأمه في حنان شديد وحب دائم. لكن عندما تذكر اخيرا الاب تذكره يقفل باب الردهة دونه. فامسك مسدس الحبر وافرغه على الجدار الابيض.

الى اللقاء.