أعمدة الغواية الخمسة

TT

تنتاب الإنسان الآن حالات قاتمة أحياناً من اليأس، أياً كان موطنه في هذا العالم، فصيحات الحرب تطارده في كل مكان. والحقائق تتلون بأجهزة إعلام منحازة تكاد تغطي الكرة الأرضية، والفكر اليميني المتطرف والذي كان يقابله دائماً فكر معتدل تتسع درجاته حتى يصل إلى اليسار المتطرف، فيحدث شيء من التوازن يجعل للعقلانية وجوداً واضحاً في الحياة الاجتماعية، هذا الفكر أصبح مسيطراً تماماً هذا اليوم يمد اليمين المتطرف بتحيزات كاملة، وبعنف وعنجهية صارخة. نرى ذلك في أكثر من موقع، خاصة في الولايات المتحدة التي تعتبر القوة الأولى الوحيدة في العالم.

ومع أننا نعيش مرحلة انتقال نوعية في التاريخ البشري، وهي سقوط الحواجز القومية ونشوء حالة من العولمة، وبالتالي سوق عالمي واحد، إلا أن هذا الانتقال ينعكس في شكلين متناقضين، الأول هو سيطرة قوة واحدة على العالم، وسيطرة ثقافة واحدة، والثاني هو تواصل القوميات والثقافات وتداخلها وتفاعل واسع النطاق يتناول كل شيء ويقتضي الكثير من التغيرات التي تمس الأعمدة الأساسية الذي قام عليها النظام الإنساني القديم كله، سواء من زاوية الأخلاق أو الاقتصاد، والفكر السياسي بشكل عام.

والمستقبل دائماً مقلق وأحياناً يثير المخاوف، ولذلك يميل الناس إلى «المحافظة» على أوضاعهم، لكن القوة صاحبة الغلبة تستغل هذا الميل وتعمد إلى تثبيت دعائمها في مواجهة هذا المستقبل المنذر بتغيير أوضاع المصالح القائمة، وبقدر ما يكون حجم التغيير المتوقع هائلا، يكون الاندفاع في الدفاع عن المصالح بالغ العنف، وهو الأمر الذي نراه الآن بالفعل.

في العالم القديم الذي كان شبه مستقر إلى عقدين أو ثلاثة فقط، كانت هناك ثوابت، خاصة في جانب الاتجاهات اليمينية التي قادت العالم في الواقع طوال القرون الخمسة الماضية، وهي تميز «الغرب» عرقياً وثقافياً عن سائر الشعوب والثقافات، وتعزز هذا الفهم بسبب التفوق العسكري والعلمي والتكنولوجي. وفكرة «تميز الغرب» جديدة على العالم ولم تتبلور وتظهر إلا في بداية حركة التوسع الاستعماري، والتي كانت تتضمن معنى إعمار العالم الخرب والمتخلف ومساعدة هذه الشعوب على شيء من التقدم وإن كانت ثقافاتهم وربما أعراقهم ايضا، عوائق صعبة في سبيل هذا الإعمار. وحينما يستبعد «الواقعيون» من أبناء الحضارة الغربية هذا المبرر الأخلاقي المفتعل، ويذهبون إلى المصالح مباشرة، يجدون أن التميز من الطبيعي أن يكافأ، وبالتالي يصبح من حق الغرب أن يستخدم المواد الأولية الموجودة في عالم التخلف وهي مواد من الممكن أن تتضمن «المادة» الإنسانية ايضا، وهو ما حدث بشكل صريح في التوسع في استخدام «الرق» والاستعباد للقوى العاملة في الولايات المتحدة التي كانت مستعمرة أوروبية جديدة، ويرى الكثيرون من المفكرين الاقتصاديين المعاصرين، أن تراكم رأس المال الذي حدث في أمريكا، بسبب الرق، هو أساس الاقتصاد الأمريكي ومنطلقه في نفس الوقت، وأن ثمار رأس المال التي نراها الآن ترجع إلى فترة الرق أساساً. وخلال أكثر من قرنين، جرى تأصيل لفكرة «تميز» العالم الغربي، فهو العالم الذي انبثقت فيه الفلسفة والعلوم في الحضارة اليونانية ثم القانون والإدارة في الحضارة الرومانية، وقد اقتضى هذا «النظر» أن يبعدوا اليونان عن أي مؤثرات من خارجهم، ولم يمنعهم منطق العلم من القول بأن النبوغ اليوناني شيء ذاتي ومستقل عن أي مؤثرات من خارجهم، وهو معجزة من معجزات الإنسان. وهكذا أصبحت الحضارة اليونانية توصف بـ «المعجزة»، حتى تنقطع صلتها بأي حضارة إنسانية أخرى سابقة عليها وينسلخ العرق الأوروبي ـ الغربي عن سائر الأعراق المتخلفة بطبيعتها. ومن هذه الفكرة نبعت الكثير من الأفكار التي عاشت عليها الثقافة الغربية، وما زالت، إلى الآن.

والإحساس بالتميز العرقي والثقافي أحد أعمدة هذه الثقافة التي تتوخى أن تكون عالمية على الرغم من تناقضها مع الأعراق والثقافات الأخرى. وهذا الاعتقاد العنصري قاد الكثير من البحوث والدراسات وكاد يتداخل ويفسد أي نظرة موضوعية وعلمية ويضع غمامة قاتمة على عيون الباحثين الغربيين، فما بالك بالمواطن الغربي الاعتيادي الذي يسعده بغير شك أن يشعر بالتميز عن سائر الناس خارج دائرة حضارته. والعجيب أن الكثير من السياسيين الغربيين الذين وصلوا في بلادهم إلى كرسي الرئاسة لا يختلف في اعتقاده بالتميز عن مواطنه البسيط الذي يتلقى معلوماته في شكل أفكار أو مفاهيم مقولبة تضاف إلى عقله دون تحليل أو تفكير. وبالفعل تورط رئيس الوزراء الإيطالي في التصريح علناً بتميز العنصر الغربي، وكذلك فعل رئيس جمهورية فرنسا السابق جيسكار ديستان، دعك من غيرهم من السياسيين أو المفكرين الآخرين الذين يعبرون عن هذه العقيدة بشكل مباشر أو غير مباشر.

ومع أن لهذه «النظرية» سيطرة على العقول في المجتمعات الغربية، إلا ان نقدها وشجبها جار على قدم وساق في قلب هذه المجتمعات ذاتها. ولا شك أن سيادة الغرب قامت على أسس من تفوق القوة، وهي ظاهرة يعرفها التاريخ منذ القدم، فالبرابرة الجرمان الذين راحوا يدقون بوابات روما كانوا من حيث القيمة الثقافية والحضارية على الهامش تماماً بالنسبة للحضارة الرومانية، لدرجة ان وصفهم بالبربرية أو الهمجية لم يكن من باب الاستهزاء فقط، ومع ذلك استطاعوا أن يسقطوا الامبراطورية ويديرون الأمور فيها. وكذلك الأمر بالنسبة للحضارات القديمة الأخرى. على أن القوة اليوم، لم تعد شيئاً عضلياً أو آلياً بسيطاً، بل قدرة علمية وتكنولوجية واقتصادية، الأمر الذي لا يتأتى إلا بناء على ثقافة متقدمة وحالة صعود معنوية مليئة بالطموح والاجتراء على كل المحاذير وهو الذي تحقق للمجتمعات الغربية بشكل عام.

وعلى الرغم من أن الدراسات الحديثة راحت تهدم هذه الدعامة، إلا أنها ما زالت قائمة وما زال النفخ فيها مستمرا، ومهما يكن الأمر فإن سقوط هذا العمود أصبح وشيكاً بسبب متغيرات كثيرة، وتحرر البحث العلمي من سطوة الأجهزة السياسية التي كانت توظف الأبحاث العلمية لأغراضها. وإذا كانت المقولات الغربية التي يتم تداولها الآن لا تخفي «ركن» التميز، إلا قليلاً، فإن انهدام هذا الركن ثقافياً أصبح وارداً.

يأتي بعد ذلك فكرة أن القوة مصدر الحق، ومن هذا المبدأ تأتي مقولات عديدة منها حق الفتح الذي يعطي للقوة العسكرية التي قامت بغزو بلد ما الحق في امتلاكه، وهو القول الذي ردده وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد، بالنسبة للأرض الفلسطينية، التي يحتلها الإسرائيليون. وعلى الرغم من أن هذا «الحق» لا يستعمله غالبية السياسيين علناً، إلا أن التحركات العسكرية التي نراها الآن تستند إلى هذا المبدأ وتستمد منه الحق في الاستباق إلى تصفية القوة العسكرية التي يحتمل أو يشك في أن تقوم بمهاجمة الولايات المتحدة، وما زالت الأمور يقررها مبدأ القوة، حتى ان الذي يقرر مصائر الأمم والدول هو درجة توازن القوة، وحين تتفوق قوة على أخرى يصبح من الطبيعي أن تهيمن على موضوع النزاع.

وهذا الركن الأساسي في البنيان الفكري والسياسي في العالم، لم يعد غير قابل للجدل، إذ تتابع حركات الرفض عملياً وفكرياً، والحديث عن نظام دولي جديد ـ على الرغم من أنه نسي سريعاً ـ ينطلق من فكرة أو ملاحظة أن هذه الأبنية الفكرية القديمة، لم تعد ملائمة. حقاً إن مصائر العالم اليوم ستتقرر وفق قانون القوة، إلا أن نقد هذا الركن ومحاولة الحد من سلطاته، تتردد في مناسبات عديدة، وتظهر أحياناً في شكل مقاومة مباشرة على مستوى التظاهرات الشعبية أو في سياسات الدول التي تتجه إلى التجمع لمقاومة القوة الوحيدة المسيطرة في العالم، وهي الولايات المتحدة. انظر إلى الاتحاد الأوروبي وانظر الى المشروع الثلاثي الذي يضم الصين والهند وروسيا الاتحادية، حقا انه لم يزل مجرد فكرة، لكن مقاومة هيمنة القوة أو انفراد دولة بها أصبح موضع التفكير والعمل في اجزاء غير قليلة من العالم. ومن المحتمل جداً أن تتمكن الدول من هدم ركن القوة وإحلال مبدأ الديمقراطية الدولية مكانه. وهكذا بدأ العمود الثاني للبناء القديم يتعرض للهدم هو الآخر.

والعمود الثالث الذي يقوم عليه البناء الثقافي العالمي اليوم هو مبدأ الربح، باعتباره معيار التقدم والنجاح، وأصبحت فكرة اقتصاد السوق تعتمد على معيار الربح، فأي مشروع اقتصادي يجب أن يكون هدفه الأول هو الربح، ولكن هذا المبدأ الذي ازداد قوة بحركة العولمة وصمود اقتصاد السوق وبخاصة بالقياس الى مشروعات الاقتصاد الموجه التي فشلت تماماً، أصبح عرضة للنقد ليس لأنه يدخل في المقولات المطلقة غير القابلة للنقد، لكن لأنه ـ في التطبيق العملي ايضا ـ ليس دليل النجاح الحاسم، فاليوم ولأسباب عديدة، منها حالة العولمة التي يمر بها العالم، وعلى الرغم من استناد فكرة الربح إليها، بدأ ينظر الى فكرة اخرى هي التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وهي تنظر للنجاح من زاوية اكثر اتساعاً من زاوية الربح، لأنها تتعامل مع مجموعات النشاطات الإنسانية في المجال الاقتصادي ونتائجها على ازدهار وتقدم المجتمعات التي تمارسها، وهي ـ على أية حال ـ لا تشجب معيار الربح بل ترشده وتوجهه لغايات اكثر تركيباً وأعم فائدة.

حقاً ان معيار الربح ما زال هو القانون الأكبر في اقتصاد السوق، لكنه بدأ يهتز أمام النقد وأمام تداعياته المختلفة التي تصل إلى الغش والفساد والتواطؤ، وتجرده من كثير من المقولات الأخلاقية والإنسانية، فهو معيار حاسم، شديد الحدة، لا يهتم بأي أعراض جانبية ـ كالبطالة ـ مثلا، وهو ينفر من أي أعباء تحد من انطلاقه بما في ذلك مبدأ دولة الرفاهة والحقوق الاجتماعية التي نشأت في نصف القرن الماضي بسبب المنافسة مع النظم الاشتراكية التي كانت هذه الحقوق محاورها الأساسية.

ان معيار الربح لم يعد مقدساً تماماً، بل أصبح مخيفاً يقاومه المتظاهرون الشعبيون في اكثر من دولة متقدمة، واقتضى تعديلات كثيرة في الفكر السياسي، منها «الطريق الثالث». والواقع ان العالم لم يعد ينظر الى الأمور السياسية والاقتصادية من زاوية اليمين أو اليسار، بل من زاوية موضوعية تتعامل مع الظواهر والقواعد الاقتصادية بشكل محايد ومن خلال رؤية عالمية تتسع لتشمل انعكاسات النشاطات في بلد ما على العالم كله، وانعكاس نشاطات هذا العالم على البلد موضوع البحث والتفكير. والعمود الرابع للثقافة الغربية القائمة هي الفردية التي تنفر من هيمنة الدولة وتضعها في أضيق الحدود، ولعل من أخطر المضاعفات الجانبية للفردية هو حق الأفراد في الحصول على السلاح والتوسع في مبدأ الدفاع الذاتي بحيث يشمل الممتلكات ايضا، وامتلاك السلاح واستعماله ليس إلا عرضاً جانبياً، أما المبدأ ذاته فيكاد يصل الى درجة الأنانية، وأحياناً نكران حقوق الآخرين، خاصة الشرائح الضعيفة في المجتمع. وعلى الرغم من أن مبدأ الفردية أحد إنجازات الثقافة الغربية التي لعبت إلى حد ما دورا في تطور هذه المجتمعات، إلا أنه في جانبه المتطرف أدى إلى انقسام المجتمع وإلى احتدام الصراع الطبقي، وهو مرتبط على أي حال بمجموعة الأعمدة التي تشكل البنيان الاجتماعي في الثقافة الغربية، وأصبح ينظر إليه في إطار احتوائه مثله مثل مبدأ الربح في الاقتصاد، وصارت التيارات الجديدة تنبه إلى أن المجتمع الإنساني ليس مجرد تجمع أفراد، بل شبكة اجتماعية متواصلة تعمل على تحسين أوضاع الناس جميعاً وتحقيق السعادة والطمأنينة لأفراد المجتمع، وهذه العبارات مأخوذة تقريباً من بعض مقولات الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون الذي يعتبر أحد المؤمنين بالطريق الثالث من السياسيين العالميين.

هذا الركن أو العمود، على الرغم من ازدهاره بعد صعود اليمين في الولايات المتحدة خصوصاً، إلا أن نقده والمناداة بتشذيبه واحتوائه في مجموعة قيم أوسع صار يزداد اتساعاً يوماً بعد يوم، خاصة بعد هيمنته على الفكر اليميني الأمريكي بعد حوادث الحادي عشر من سبتمبر.

والعمود الخامس هو مبدأ توازن القوة باعتباره المبدأ العملي والواقعي الذي يقرر وحده السياسات، والذي يؤدي إلى إقرار حق القوة الأكبر في الهيمنة على مقدرات الأمور في العالم، والذي نتج عنه انفراد الولايات المتحدة بصياغة الأوضاع السياسية في الغالبية العظمى من مناطق العالم. وهو الذي يفرض بالتالي ثقافة عالمية واحدة على الثقافات الأخرى.

هذا المبدأ يتعرض للنقد هو الآخر، فهو الذي أدى إلى ظهور النزعة الامبراطورية الجديدة، وهو لا يتعرض للنقد فقط، بل للمقاومة العملية ايضاً.

وما زال للحديث بقية.