قراءة جديدة لكتابات قديمة

TT

أحاول أحيانا، في حدود الوقت المتاح والمنتزع من ساعات راحة أو التزامات متشابكة، أن أعود لقراءة بعض ما سبق لي التهامه، خصوصاً من النصوص السياسية، ولا يخجلني أن أكون كتلك الحيوانات التي تختزن غذاءها لتعيد مضغه فيما بعد بهدوء يضمن لذّة المضغ وحسن الهضم.

ويحدث أن تكون القراءة الجديدة على ضوء أحداث جديدة، مما يمنحني متعة مضاعفة، تحبّب إليّ اقتسام فوائدها مع قارئ لعله لم يتمكن من قراءة النص مرة أولى، ولعله كان يريد قراءته ثانية فلم تتح له الفرصة لسبب أو لآخر.

ولا أقول هذا اعتذاراً عن الاجترار، الذي يستعمل في أدبياتنا غالباً بمفهوم قدحي، فقد أوضحت أنه من نعم المولى عز وجل على مخلوقاته التي لا تزعم أنها تملك عقولاً تتطاول بها على الخالق.

والكتاب الذي أتوقف عنده اليوم هو نفس الكتاب الذي هداني إلى استعمال هذا الأسلوب، وهو «زيارة جديدة للتاريخ»، للأستاذ محمد حسنين هيكل، الذي يستعيد فيه حوارات ولقاءات سبق له نشرها، ويعيد نشرها بنظرة أكثر تأملاً وتعليقات أكثر دسامة، بحكم ما يتوفر من معلومات جديدة وتحليلات مستجدة.

والفقرات التي تهمني اليوم هي تلك التي تتناول لقاء الكاتب الكبير مع الفيلد ماريشال برنارد مونتغمري، قائد انتصار العلمين في الحرب العالمية الثانية، الذي كان نقطة تحول رئيسي في مسار الحرب العالمية الثانية، عندما هزم الفيلق الألماني بقيادة الماريشال الألماني إروين روميل.

ويرى مونتغمري أن الانتصار مرهون بضمان مشروعية الحرب، والمشروعية تحقق للقائد المحارب «ميزتين أساسيتين لا يستطيع أن يحارب بغيرهما، الأولى أن يكون الرأي العام في وطنه مقتنعاً بالحرب لأنها الوسيلة الوحيدة الباقية أمامه للدفاع عن حقوق مشروعة: أمن أو مصالح».

واستطرد، بعيدا عن نص حديث مونتغمري، لأعود إلى طروحات الرئيس جورج بوش الصغير، بعد أكثر من ستة عقود على انتهاء الحرب العالمية، ونجد هنا، على وجه التحديد، أن المخطط الأمريكي جمع بين العنصرين المذكورين، أمن الولايات المتحدة ومصالحها، وهو ما يبرز معالم القوة في الطرح الأمريكي ويفسر الالتفاف الشعبي الواسع حول بوش، ويبرز في الوقت نفسه الثغرات التي يمكن أن تتحول إلى نقاط ضعف، إذا أحسنّا فهم المعادلة الصعبة التي تطرحها الحرب، والتي تتلخص في أن نصل بالعالم، وبالرأي العام الأمريكي خصوصاً، أن ما تقوم به واشنطن لا يحقق الأمن للمواطن الأمريكي ولا يضمن المصالح الحيوية لبلاده، خصوصاً على المدى المتوسط والبعيد، وهو ما يمكن أن نجد له سنداً في ما تشهده أفغانستان اليوم.

وأعود إلى حديث مونتغمري الذي يقول في نصيحته إلى القائد المحارب بأنه «لا يستطيع أن يشن الحرب لمجرد أنه رفع العلم وطلب إلى الأمة أن تتبعه، فالحماسة بنت لحظتها، ثم تتبدد، شأنها شأن أي حالة نفسية، والحرب ليست حالة نفسية وإنما هي عبء طويل ممتد لا بد أن يتقبله الناس وأن يضحوا في سبيله، ولن يفعلوا إلا إذا آمنوا، بيقين، أن الحرب مشروعة، أي أخلاقية».

ولعلي أتصور أن هذه الفقرة يجب أن تقرأ على أنها موجهة لنا، نحن الذين نتعرض لخطر الحرب، لأنها تحذر من النظرة العربية، السائدة منذ تقسيم فلسطين، والتي ترى في الجهاد فرض كفاية يقوم به البعض مباشرة، ببذل الدماء والأرواح، ويكتفي آخرون بنوع من الزكاة المادية يريحون بها ضمائرهم، أو هكذا يتصورون.

والاستنتاج الرئيس من كل هذا أنه لا قبل لنا بمواجهة العدوان المتواصل إلا بتجنيد واسع لكل القدرات لتساهم في المعركة، مع ملاحظة أن القتال، كما يقول مونتغمري، مستندا إلى «كلاوزفيتز»، ليس هو الحرب، التي هي الدبلوماسية بوسائل أخرى.

ببساطة..

ليس مطلوباً من كل عربي أن يحمل بندقيته ويطلقها في اتجاه العدو، ولكن المطلوب أن يكون كل عربي سنداً حقيقياً للمقاتل الذي يسدّد بندقيته نحو قلب العدو.

والسند الحقيقي يرتكز على إدراك أن القتال هو جزء من الحرب، والحرب تشن على جبهات متعددة، سياسية ودبلوماسية وإعلامية واقتصادية، وبدون هذا المنطق يكون المقاتل معزولاً في خندقه، وهذا، على ما أتصور، سبب هزائمنا منذ الأربعينيات، لأن الحرب، كما يقول الماريشال البريطاني، ليست دبابات تتصادم وليست مدافع تهدر وليست جنود مشاة يحتلون مواقع، وإنما هي إرادة تعلو فوق إرادة.

ولعلي أذكّر هنا بالكلمات الرائعة للمهاتما غاندي، التي يقول فيها بأن بإمكان الهنود أن يغرقوا الجزيرة البريطانية إذا بصق كل الهنود عليها بصقة واحدة في نفس الوقت، وسيكون من قبيل الاستهانة بالقارئ أن أحاول شرح هذا التعبير.

وأعود إلى الكتاب لأستعرض الميزة الثانية التي تحققها مشروعية الحرب، وهي أنها تعزل العدو عن بقية العالم، بحيث تجعل، حتى حلفاءه العسكريين، يترددون قبل دخول المعركة، لأنهم لن يستطيعوا إقناع شعوبهم.

ويعبر «مونتي» (وهو لقب التدليل الذي كان يفضله مونتغمري)، عن ذلك بقوله، إن «الصراع على العقول يبدأ قبل الصراع على الأرض، إذا اقتنع العقل مشى وراءه الضمير، ودخلت الأمة إلى الحرب واثقة من هدفها».

ثم يستدرك قائلا، وكأنه يتحدث مع عرب الألفية الثالثة، بأنه طبيعي أن «مشروعية الحرب، أو أخلاقيتها، لا تكفي لتأكيد النصر، فالتاريخ مليء بأهداف مشروعة عجزت عن الوصول إلى ما تمنته (..) أنا أقول إن مشروعية الحرب هي الأرض التي يتحتم أن يتم النصر على أساسها، بدونها يمكن أن تكون لطرف ما «غلبة»، لكن الغلبة غير «النصر»، «الغلبة» معتمدة على القوة ومستغنية عن المشروعية، وهي لا تصنع سوى أنها تنهي قتالاً لتفتح الباب أمام قتال جديد، حين يتمكن المغلوب بالقوة من توفير أو استعادة بعض أسبابها في يده.

ويطول حديث مونتغمري وأكتفي بأن ألتقط، وعلى ضوء أحداث اليوم، لقطة أخرى يجب أن نضعها كما يقول المصريون، كالقرط في الأذن.

فقد كان من بين فقرات البرنامج الذي وضع لزيارة قائد العلمين في المنطقة الترحم على مقابر القتلى، وتصور الضابط المصري المرافق، الجنرال حسن البدري، بتفكيره العربي المستمد من العمق التاريخي والانتماء الحضاري للأمة، بأن الماريشال سيمر أيضا بقبور القتلى من الألمان، ولكن هذا رفض تماماً قائلا إنهم «لم يكونوا رجالي»، «لم يحاربوا من أجل بريطانيا».

ثم راح يفسر موقفه قائلا: «إن بيننا وبين الألمان الآن سلام، لكن هؤلاء الألمان الذين تربطنا بهم الآن علاقة سلام ليسوا هم الألمان الذين تضمهم قبور العلمين، الألمان الأحياء قبلوا سلامنا ورضخوا له وروضوا أنفسهم على الحياة جزءا من أوروبا، مشروع الأطلنطي، أما الآخرون فهم ألمان هتلر، وهؤلاء لا مساومة معهم أحياء أو أمواتا».

ولست أتصور أنني بحاجة لتعليقات كثيرة على ما قاله مونتغمري، ابن القسيس الذي نسي قولة المسيح المشهورة والجنود يدفعونه نحو الصليب: رب اغفر لقومي فإنهم لا يعرفون.

وإذا كان الماريشال البريطاني لم ينس خصومته مع النازية فلست أتصور كيف يمكن أن يتوقع عربي أن ينسى الغرب فشله في الحروب الصليبية، وسجن لويس التاسع في دار لقمان، التي آمل أن تكون ما زالت على حالها.

وكيف يمكن أن ينسى الغرب الكماشة التي هددت وجوده يوما، من القسطنطينية شرقاً إلى بواتييه غرباً، وهو ما تؤكده حقيقتان معاصرتان، أولاهما أن مجموعات المتطرفين الفرنسيين حملت اسم شارل مارتل، الذي أوقف الزحف العربي، وأن فطور الصباح المفضل عند الفرنسيين هو «الكرواسان» أي الهلاليات، وهو نوع من الفطائر ابتكرت عند حصار المسلمين للعاصمة البيزنطية، يخبز على شكل هلال، ويلتهم صباحاً، تفاؤلاً بالنصر على «قوم الهلال».

وكيف ينسى الغرب خلال حرب الثلاثمائة سنة بين الجزائر وإسبانيا، والتي كان المغرب العربي فيها رباطاً جاهد فيه الثغوريون دفاعاً عن راية الإسلام.

القوم هناك لا ينسون هذا، وكل البلاغيات التي نسمعها في المناسبات هي ملعقة السكر التي تخفي مرارة الحقد القديم، الذي يتمحور حول الإيمان بأن الحضارة الغربية هي المرشحة للخلود وأن كل ما عداها، أياً كانت قيمته، يجب أن يدفن إلى الأبد.

ولست أدعو لإحياء العداوات، لكنني استعيد موقفين عرفتهما في الجزائر.

ففي منتصف السبعينيات قال الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين في الترحيب بالرئيس الفرنسي جيسكارد ديستان، لقد طوينا صفحة الماضي.

ولم تفهم القيادة الفرنسية ما تعنيه هذه العبارة، وهكذا اضطر الرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد بعد ذلك أن يوضح الأمر أكثر للرئيس الفرنسي فرانسوا متران فقال في خطابه «لقد طوينا صفحة الماضي، لكننا لم نمزقها».

وعلينا أن نطوي صفحة الماضي، ولكن مع الاحتفاظ به حياً في الذاكرة، فالصفح واجب والنسيان جريمة.