وقفة مع الذات في ختام هذا العام..

TT

لا اعرف لماذا تهب عليّ نسمة من الحزن الهادئ في نهاية كل عام. ولكنه ليس حزنا تعيسا ولا اسود. على العكس انه حزن يشبه الفرح. فكل ما حولك هنا في باريس يدعو للبهجة والابتسام. الزينات في الشوارع، والليل يتحول الى نهار من كثرة الاضواء والجمال والاناقة، والشانزيلزيه كأنه في عرس! والناس يركضون في كل الاتجاهات بحثا عن المشتريات من اجل التحضير لسهرة الميلاد. باختصار فإن كل باريس تتحول الى عيد ينعكس عليك بالضرورة حتى ولو كنت خارج الدائرة كليا ولا علاقة لك بالموضوع. ومع ذلك فإني اشعر بنوع من الحزن الهادئ الذي يغمرني .. انه يشبه البحر من حيث العمق والاتساع والاحساس بهشاشة الاشياء، أو عظمة الاشياء لا فرق.

هل لأني اغادر عاما كاملا اشعر بالحزن؟ على العكس اني انفضه عن كاهلي بكل فرح وكأني انزّل حملا ثقيلا عن ظهري، بل واشعر بالانفراج، والخفة واتنفس الصعداء عندما يموت العام القديم. اشعر وكأني ولدت من جديد في مستهل كل عام .. انه وهم بالطبع، ولكنه وهم مريح وجميل.

ولكن هذه المرة لا اشعر باني اودع عاما كاملا فقط، وانما عمرا او قل مرحلة بأسرها من مراحل العمر. واحيانا يتوقف المرء لكي يتساءل: ماذا فعلت، وماذا لم افعل؟ اين أنا؟ وهل تعلمت شيئا بعد كل هذا السفر في الداخل والخارج؟ ام اني تحولت الى صخرة صماء لم تعد تحس بشيء بعد مرور الايام والسنوات؟ .. ثم بعد التجارب والمحن، والزلازل ايضا...

في الواقع ان السفر في متاهات الذات لا يقل أهمية عن السفر في العالم الخارجي والبلدان. الداخل متاهة، قارة سحيقة وابعاد. وقد يغوص الانسان ويغوص دون ان يصل الى اي شيء، الى اي قعر. فيرجع عندئذ من تلك السفرة الطويلة بخفي حنين. يرجع خائبا، حسيرا، محبطا. ثم يكرر المحاولة مرة اخرى كسيزيف، ولكن دون جدوى. وقد كان سيزيف صديقي طيلة كل تلك السنوات العجاف.

واحيانا يعتقد الانسان ان السفر في الخارج يلهيه، ولو للحظة عن هموم الداخل واضطراباته المستعرة او يساعده على حلّ عقدة الداخل. وهذا صحيح. فأنا شخصيا لو لم اسافر الى اوروبا، وفرنسا تحديدا، لما تقدمت خطوة واحدة في اسكتشاف المتاهات الداخلية للذات.

كان ينبغي عليّ ان اخرج من نفسي بأي شكل. ولم يكن هذا الخروج ممكنا الا بتغيير المكان والجغرافيا، الا بالابتعاد والقطيعة والهجران. وحتى الآن، اي بعد ربع قرن، لم اشبع ابتعادا وقطيعة. وهذا دليل على مدى خطورة الموضوع وعمق الجرح ان لم نقل الكارثة.

لو لم اسافر في الزمان والمكان لما حققت اللقاءات الاساسية في حياتي، ولما اتيح لي ان انخرط في تجارب عديدة ورهيبة احيانا. لو لم اسافر لما اتيح لي ان اتقن لغة اجنبية حديثة تمكنني من الاطلاع على النصوص الكبرى التي اضاءت لي مجاهيل الطريق وسط الظلام المطبق او القلق القاتل. ما كان بامكاني، لو بقيت محصورا داخل اطار اللغة العربية، ان اطلع على مئات المراجع وانغمس في النصوص الكبرى لجان جاك روسو، او كانط، او ديكارت، او نيتشه، او بودلير، او رامبو، او سبينوزا، او دوستويفسكي، او ميشيل فوكو، او عشرات غيرهم.

لو بقيت في الداخل ـ اقصد الداخل الجغرافي هنا ـ لعشت ومت دون ان افهم شيئا، ودون ان اتقدم خطوة واحدة الى الامام. بفضل هؤلاء الكبار الذين امضيت عمري في قراءة نصوصهم اتيح لي ان اقترب ولو قليلا من مجاهيل النفس والانغلاقات الداخلية، بل وتجرأت احيانا على ان انظر من ثقب الباب! لا ازعم باني حققت خرقا كبيرا ـ وقد كان امنيتي ـ ولكني اقتربت من تلك المنطقة الخطرة، تلك المنطقة العمياء التي لا تنفتح الا للكبار الذين ذكرتهم او امثالهم. لقد تجرأت على ان اقترب منها حتى مسافة معينة. بعدئذ توقفت واحجمت خوفا من عواقب المغامرة وحفاظا على مواقعي الخلفية. وقلت بيني وبين نفسي: اذا ما غامرت اكثر او تهورت فربما خسرت حتى هذه المواقع الخلفية التي لم استطع التوصل اليها الا بعد جهد جهيد ومحاولات سيزيفية مضنية.

لقد عزَّلت الطريق في السنوات الماضية، اقصد في ربع القرن الماضي، عزّلت الداخل تعزيلا لكي ارى بصيص نور وسط هذا الظلام.. ولو لم اخرج، لو لم تتح لي تلك الفرصة الذهبية للابتعاد عن منطقة الذات وقراءة هذه النصوص التحريرية، لما استطعت ان اعزّل شيئا، ولربما خنقتني تلك التراكمات الداخلية وقضت عليّ.

ما الذي استفدته من هؤلاء الكبار الذين ذكرتهم او لم اذكرهم؟ تعلمت شيئا اساسيا واحدا: وهو ان النزول الى الطبقات السفلى للجحيم، او الغوص في اعماق الداخل ومتاهات الذات يشكل تجربة مرعبة بدون شك، ولكن لا ينبغي ان تخيفنا كثيرا. عندما يقول رامبو في ديوانه الشهير «فصل في الجحيم»: «آه، لقد أكلتُها ضربة كبيرة!»، فإنه يقصد ان التجربة كانت قاتلة، مريرة (يلاحظ القارئ اني ترجمت عبارته بالعامية تقريبا). ولكن لولا هذه التجربة الاحتراقية لما كان هذا الديوان المؤسس للحداثة الشعرية قد كتب. كان ينبغي ان يدفع رامبو الثمن لكي يرى، لكي يصل، لكي يحدث خرقا في اعماق الذات ومجاهيلها المعتمة. لكي يتقدم خطوة واحدة الى الامام كان ينبغي ان يموت ألف موتة.. والشيء ذاته يمكن ان يقال عن دوستويفسكي وتجربة النزول الى الطبقات السفلىة بعد الحكم عليه بالاعدام، ثم النفي والاشغال الشاقة في سيبيريا. بعدئذ اصبح دوستويفسكي دوستويفسكي وخرج منصهرا، مصقولا، وكانت الروايات العظام: الجريمة والعقاب، الممسوسون، الاخوة كرامازوف، الخ.

في رحلتي الشاقة والعسيرة «داخليا» كان لي هؤلاء الكبار عونا وسندا، لكن ينبغي ان اعترف بأن قراءة جان جاك روسو كانت حاسمة. فقد علمني شيئا آخر لا يشترى بالذهب. عندما يقول هذه العبارة في اكثر من موضع: «قررت ان اضحي بنفسي من اجل الحقيقة»، فإنه يرتفع الى الذروة العليا التي لا ذروة بعدها لمفكر.. وهنا ساعدني روسو «خارجيا» اذا جاز التعبير، وجاء في الوقت المناسب. فبعد معركة الداخل اندلعت معركة الخارج. وقد كانت هذه الاخيرة شرسة، مجرمة، فرضت عليّ فرضا وبالباطل. عندئذ علمني جان جاك روسو ان اثبت على الحق والمبدأ وان ادفع الثمن راضيا بعد ان كنت اتقبله مكرها، ثم علمني روسو شيئا آخر: وهو ان كل امجاد الدنيا وبهجاتها واموالها لا تساوي شيئا امام لحظة صدق مع الذات، او مع الآخرين. لقد تعلمت منه ان ازهد بكل شيء، بالوجاهات والمقامات، بالمظاهر الخادعة والاستعراضات. وقال لي: اياك، ثم اياك ان تقترب مما يترامى عليه الآخرون تراميا. فالشهرة والجوائز والامجاد الشخصية، كلها اشياء فارغة لا معنى لها. انها مقتل المثقفين! الشيء الوحيد الذي له معنى: هو مقاومة محاولات التلويث والافساد والتوريط. فاذا استطعت نجوت!.. «لما رأيت الفساد عاما شاملا في عصري قررت ان اعيش في الفقر والاستقلالية» يقول بما معناه.. ثم أكد لي نفس الدرس تلميذه من هذه الناحية: ايمانويل كانط. وفهمت منهما ان العلم بدون اخلاق او ضمير لا يساوي قشرة بصلة! وربما كان يكمن هنا سبب انحراف الحضارة الغربية او خطيئتها الاصلية. بالطبع كان يمكن ان افهم كل هذه الاشياء وانا في قريتي دون ان اتغرَّب واسافر، ودون ان اتعذب وادخل الى الجامعات الكبرى وانال الشهادات.. وهذا صحيح. ولكن فهم هذه الحقائق المبدئية بعد ان تكون قد قمت بدورة حول العالم ودورة حول نفسك أهم بكثير من تلقيها بشكل سلبي او حفظها هكذا عن ظهر قلب كمواعظ تجريدية، فكلما كان ثمن القناعة التي توصلت اليها كبيرا كان رسوخها في النفس اقوى.

اذا كنت قد الححت كثيرا على جان جاك روسو في السنوات الاخيرة، واذا كنت قد قرأت عنه عشرات الكتب، فلاني كنت اجد في حياته النموذجية والاستشهادية شيئا من محنتي وعذابي.