ديمقراطية روسيا الغضة تتعرض إلى خطر جدي

TT

أعلن العراق أنه سيلغي العقد الذي أبرمه مع شركة «لوك أويل» التي تعد واحدة من أكبر شركات النفط الروسية. ولعل هذه المبادرة العراقية غير الودية تأتي نتيجة نشاطات شركة «لوك أويل» في الولايات المتحدة، إذ تعمل هذه الشركة منذ فترة كي يكون لها موقع في العراق بعد سقوط نظام صدام حسين.

ويمكن اعتبار المصالح الروسية والديون العراقية لروسيا التي تبلغ سبعة مليارات دولار العاملين الأساسيين اللذين يقفان وراء تقاعس روسيا في دعم الجهود الأميركية المبذولة ضد صدام حسين. لكن يبدو أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد أدرك أن بلاده لن تكسب شيئا إذا استمرت في معارضتها للولايات المتحدة، خصوصا بعد أن وافقت فرنسا التي هي عضو آخر دائم في مجلس الأمن الدولي والتي لديها أيضا مصالح نفطية في العراق على قرار الأمم المتحدة. وفي حالة وقوع أي شيء بخصوص هذه القضية فإن بوتين والمؤسسة الحاكمة الروسية لن يقوما بعرقلة أي عمليات عسكرية تقوم بها الولايات المتحدة في العراق.

قطعت روسيا منذ هجمات 11 سبتمبر شوطا طويلا في ميدان السياسة الخارجية التي وضعها بوتين والهادفة إلى علاقات أوطد مع الغرب. وسبَّب خياره ردود فعل حادة بين صنّاع السياسة الصقور في موسكو في مجالي الدفاع العسكري والعلاقات الخارجية. مع ذلك ظل بوتين ملتزما بسياسته.

قد يكون بعض المسؤولين الكبار الروس عارضوا في خريف 2001 انتشار القوات الأميركية في أواسط آسيا، وعبَّر بوتين بصيغة لا لبس فيها بأنه لا يؤيد الوجود الأميركي في تلك المنطقة. لكنه بعد ذلك بادر إلى إغلاق القواعد الروسية في فيتنام وكوبا، وتبع ذلك تصاعد السخط الشعبي على هذه المبادرة. كذلك كان الحال بعد انسحاب الولايات المتحدة من معاهدة حظر الصواريخ البالستية إذ أدى ذلك إلى ردود فعل غاضبة من الروس المحافظين. لكن المتذمرين لم يحصلوا على الكثير من الموافقة من الكرملين وهذا ما أدى إلى تلاشي حدة الغضب تدريجيا. في كلتا الحالتين أوضح بوتين أنه قد لا يحبذ المبادرة الأميركية لكنه مع ذلك لن يقوم بإطلاق تصريحات نارية حولها أو أن يسعى إلى مواجهتها.

وساعد موقف بوتين الحازم وغير الصدامي، إضافة إلى ارتفاع شعبيته وفق استطلاعات الرأي العام الروسي، على إضعاف صوت المنتقدين لسياسته الميالة للغرب. من جانب آخر، قد يجد الناخبون الشيوعيون البيانات المعادية للغرب جذابة والسياسيون الشيوعيون مستعدون دائما لإطلاق خطب وتصريحات بهذا الاتجاه لكنهم أصبحوا أقل فأقل أهمية على صنّاع السياسة الروسية.

ومع حلول الوقت الذي توسع حلف الناتو فيه كانت الطاقة التي تقف وراء العداء للغرب قد تضاءلت كليا. فإمكانية أن تكون بلدان حلف الناتو لها حدود مع روسيا، قوبلت بلا مبالاة حينما تحققت على أرض الواقع قبل شهر واحد، بينما كان على الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسين سنة 1995 أن يواجه ردود فعل حادة من خصومه السياسيين ولفترة طويلة، وفي السنة الماضية أثار هذا الموضوع غضبا حادا بين المحافظين الروس. ولم يثر تصريح بوش في الشهر الماضي أي انتباه حينما قال إنه يريد بناء نظام صاروخي دفاعي محدود.

يبدو أن أسلوب بوتين يستند إلى قناعة ترى أن روسيا لن تتمكن من الخروج من وضعها الاقتصادي البائس بدون أن تتكامل مع الغرب. وقبل يوم واحد من انعقاد قمة الناتو في براغ الشهر الماضي لخّص وزير الخارجية الروسي إيغور ايفانوف السياسة الخارجية الميّالة إلى الغرب والولايات المتحدة عبر مقال صحافي جاء فيه: «أي صدمة تصيب الاقتصاد الأميركي هي صدمة لاقتصاد كل البلدان الأخرى». وأضاف ايفانوف أن روسيا والكثير من الدول الكبرى «لها قيم مشتركة ولها إمكانيات ضخمة في فهم بعضها البعض».

قد لا يتفق الشعب الروسي مع عزم رئيسه لتحقيق التكامل مع الغرب، لكن مع تلاشي نفوذ روسيا على المستوى العالمي، أصبح الروس أقل اهتماما بالنزاعات البعيدة عن حدود بلدهم، بغضّ النظر عن طبيعة القضية سواء كانت متعلقة بالنزاع الإسرائيلي ـ الفلسطيني أو احتمال وقوع الهجوم العسكري الأميركي على العراق، فأكثرية الروس يفضلون عدم تأييد طرف في النزاع على حساب طرف آخر وكل ما يفضلونه هو بقاء روسيا بعيدة عن أي حرب لا تخصها. في لقاء تلفزيوني جرى يوم 19 ديسمبر مع الرئيس بوتين ضمن برنامج «سؤال وجواب مع الجمهور» لم يُسأل الرئيس الروسي عن العراق (في الحقيقة، لم يوجَّه له أي سؤال يتعلق حول السياسة الخارجية. بالتأكيد ليس هناك أي طريقة تجعلنا نعرف إن كان ذلك نتيجة لانتقاء دقيق للأسئلة أجراه الكرملين أو أنه عدم اهتمام حقيقي بين الروس أنفسهم). قد ترفض بعض الحكومات العربية دعم الولايات المتحدة خوفا مما يخلقه ذلك من غضب شعبي حاد. لكن بوتين لديه حرية أكبر، لأن الناس في بلاده سلبيون بشكل عام وغير مبالين، لذلك هو يستطيع الاستمرار في تطبيق سياسته الميالة الى الغرب بدون الالتفات كثيرا إلى الرأي العام. مع ذلك، هناك فئة صغيرة من الناخبين الروس ذوي النفوذ الكبير لديها مخاوف عميقة من شن الولايات المتحدة الحرب ضد العراق. وتضم هذه الفئة أصحاب شركات النفط مثل شركة «لوك أويل». فهؤلاء يخافون من أن تسبِّب حرب من هذا النوع خسائر فادحة للاقتصاد الروسي. لكن شركة مثل «لوك أويل» قد اتخذت موقفا حاليا يتمثل في البحث عن طرق تضمن لها وجودا في العراق حتى لو كان ذلك عن طريق التوجه إلى الولايات المتحدة. وجاء إلغاء العراق للاتفاقية التي تربطه بشركة «لوك أويل» كي يعطي الأخيرة الحرية في البحث عن خيارات أخرى.

لكن هناك مشكلة كبيرة واحدة تواجه ميل بوتين صوب الغرب وهذه تتمثل في أن هذا الموقف لا صلة له بالقيم التي تحدث عنها ايفانوف في مقالته معتبرة إياها قاسما مشتركا يجمع الدول الكبرى بعضها ببعض. فتحت توجيه بوتين ومع استمرار حرب الشيشان لثلاث سنوات وبوجود بيروقراطية حريصة على خدمة نفسها أولا وقادرة على قمع مؤسسات عديدة أخرى، تتعرض ديمقراطية روسيا الغضة وحرياتها الليبرالية إلى خطر جدي، حتى مع التزام سياستها الخارجية خطا منحازا إلى الغرب.

* خدمة «واشنطن بوست» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»