عام جديد وتركة ثقيلة

TT

يقول أحد الأدباء «.. ما دام هذا العالم موجودا فعلا، فقد انمحى الفاصل بين الممكن واللا ممكن..». هذه العبارة بالرغم من قصرها تعبر بصدق عن الحادث في عالم اليوم، ونظرة تأمل عميقة للاحداث ونحن نودع عالما منصرما حافلا بالمجريات، ونقف على اعتاب عام جديد، نخرج بقناعة تامة بأن ما يجري اصبح دمجا للواقع مع الخيال، وان ما كنا نعتقد بأنه ضرب من المستحيل، اصبح جزءا لا يتجزأ من الحقيقة، وان ما كان يعد ضربا من الجنون، صار من صميم الواقع المعاش، حتى تحول العالم تدريجيا الى مستشفى ضخم لمجانين يضعون أقنعة العقلاء لكي يستمروا في أداء ادوارهم الهزلية!!

لنترك خلف ظهورنا خيباتنا الذاتية، واحباطاتنا النفسية، التي احتسيناها كنتيجة حتمية لفشلنا في تحقيق الكثير من امانينا الحياتية، وننسى ولو لفترة وجيزة من الزمن، آلامنا التي تجرعناها على مدى سنوات عمرنا، بسبب فقدان حبيب، او فراق عزيز، او شيء من حاجياتنا الثمينة، كون الانسان بطبعه سريع النسيان، مما يدفعه سريعا الى ضم أوجاعه وسكبها في سراديب النسيان، وان نقيم حفل وداع لهذا العام، الذي يلملم حاجياته في صرة ليرحل عن دنيانا الى غير رجعة، عام يدرك بأن آثار قدميه باقية حتى بعد ان يحل العام الجديد، الذي يسير متبخترا، والزينات معلقة على صدره، فما حدث من وقائع في العام المنصرم اكبر من ان تطمسه كلمات وداعية مؤثرة، كتلك التي تلقى في مناسبات التأبين وسرادقات العزاء، وما يجري في العالم اليوم اقوى من ان نرمي مخلفاته بملء أيدينا في قيعان الماضي، ثم ننفض ايدينا ونأخذ شهيقا طويلا وننصرف الى قضاء حوائجنا، معتقدين بأن العام القادم قادر على قطع كل علاقاته المشبوهة بالعام المنصرم، الذي يمشي وهو مطأطئ الرأس، خجلا من سمعة أيامه السيئة!! وما ان تدق الساعة الثانية عشرة بعد منتصف الليل معلنة الدخول الى عام 2003، حتى يفيق العالم من فرحته الوقتية، ويقلب اوراقه القديمة، متفكرا بجدية في التركة الثقيلة التي يحملها على ظهره، والتي صنعتها يد الانسان!!

ما زلنا نحمل وصمة الحادي عشر من سبتمبر، والتي مر عليها اكثر من خمسة عشر شهرا.. احداث غربلت عالمنا العربي، وهيجت الدنيا علينا، ودفعت العرب منذ ذلك التاريخ المشؤوم الى تقديم المزيد من التنازلات السياسية، في محاولات مستميتة لتقديم دليل براءتهم وحسن نيتهم، على مرأى ومسمع العالم بأسره حتى فقدوا ارادتهم السياسية، والمضحك المبكي ان الجميع يستمعون بجدية الى خطبنا دون ان يصدقوا ما نتفوه به، او يتلمسوا نبرة الصدق في احاديثنا، والكل يفتحون اعينهم على آخرها، متفحصين ما نقدمه لهم من اثباتات، دون ان يؤمنوا ولو بحرف مما هو مكتوب في لوائحنا، والسبب انهم يصرون على وضع غشاوة على اعينهم، لقناعتهم الذاتية بأننا أمة مجبولة على العنف، متعطشة دوما للدماء، غير آبهين بتاريخ حضارتنا المضيء، فالعبر دوما بالنهايات وليست بالبدايات.

ندخل العام الجديد والفساد ما زال معلقا في اغصان بلداننا العربية، والفرمانات تكتب بأحبار ندية، تحث على ولوج العام الجديد بضمائر يقظة، وما ان يهدأ الصخب، وينفض جمع الحاضرين، حتى تنسى الوعود، وتلقى البنود في الادراج مع غيرها من الاحلام الموءودة، تعود قوافل مجتمعاتنا العربية الى السير في دروب الغش والازدواجية والضمائر الورقية!!

نحتفل بالعام الجديد وخمس سكان العالم يعيشون على دولار واحد في اليوم، في الوقت الذي تنفق فيه الدول الاوروبية ما يعادل الدولارين على البقرة الاوروبية!! بجانب موت اكثر من مليون شخص في اثيوبيا من الجوع، ووجود طفل من بين خمسة اطفال في دول العالم الثالث لا يذهب الى المدرسة، مما يعني ان 113 مليون طفل يحسبون اميين، وهو ما يعني الانغماس في بؤرة التخلف والرجعية، لأن نافذة العلم هي البوابة الآمنة لتحقيق الرفاه السياسي والاقتصادي والاجتماعي.

قد يتساءل المرء في قرارة نفسه.. ما الذي يجعل الانسان في دول العالم الثالث، مفقودة آدميته، مستباحة انسانيته؟! اتذكر هنا عبارة لجيمس موريس، المدير التنفيذي لبرنامج الغذاء العالمي، بأن الجوع والفقر والأمية، مشكلة خلقتها السياسة. وهو ما يحدث بالفعل، فالفساد السياسي هو العامل الاساسي الذي ادى الى فقر الكثير من المجتمعات، نتيجة السياسة التي يتبعها حكامها، بجانب تقاعس المجتمع الدولي عن مساعدة الدول الفقيرة، وسيطرة البنك الدولي على دول العالم الثالث من خلال استنزاف مواردها!! واذا نظرنا الى احوال الصحافة وحرية التعبير، سنرى أنها تضيق في العالم بأسره يوما بعد يوم، حتى في امريكا التي تتغنى بالديمقراطية اصبحت هناك قيود على حرية التعبير بحجة الحفاظ على الامن القومي، واتسعت دائرة الاعتقالات في دول العالم الثالث بين صفوف المعارضين على تباين تخصصاتهم، على الرغم من الثورة المعلوماتية التي يحيا في اجوائها العالم، والتي تعطي الانسان فسحة من الامل. ان رياح التغيير ستطال الجميع دون استثناء رغم أنوف المعترضين!!

وآخر ما نودع به العام المنصرم، طبول الحرب التي تدق من بعيد مستهدفة العراق، ونلوح بأيدينا له واشباح الموت تتسكع بجرأة في الدروب العربية، وقد وضع الجميع قلوبهم على ايديهم تحسبا من ويلات الحرب، وخوفا على اطفال العراق الذين يستقبلون العام الجديد بتدريبهم على لعبة الموت بالقنابل والمتفجرات!! حرب يبدو من ظاهرها انها تهدف للقضاء على نظام صدام، واهدافها الحقيقية بعيدة كل البعد عن هذا الهدف النزيه!!

اشياء كثيرة مرت بنا خلال هذا العام، انكسارات وفواجع ونكبات، ورغم كل هذا لا بد ان يقيم الانسان الزينات، ويُقدّم أحر التهاني لحلول العام الجديد، زارعاً في نفسه الامل بأن العام القادم لا بد ان يحمل ولو شيئا من السرور، فالحياة من طبعها تقليب وجوهها، ومن حسناتها انها تحب المفاجآت، ومن مميزاتها انها تدع للشعوب دوما مساحة كافية من الزمن لكي تجفف دموعها وتداوي جراحها، وتدعك قلوبها العليلة لكي تبني ارادتها، وتسترجع قوتها، فمن غير الممكن ان تعيش القلوب بلا نبض يدفعها للنضال من اجل حياة كريمة!!