دماء جديدة

TT

«أن تقوم بالعمل متأخراً خيرا من ألا تقوم به أبداً»، هكذا يقول التعبير الانجليزي الشهير، وفي مقابله يقول المثل المصري «كل تأخيره وفيها خيره» ولا أدري أي التعبيرين ينطبق أكثر على الموقف الأخير الذي اتخذه خالد محيي الدين، أحد أبرز الأسماء في عالم السياسة في مصر منذ أكثر من نصف قرن، وهو ذلك الموقف الذي أعلن فيه عن تركه رئاسة حزب التجمع اليساري المعارض، أحد الأحزاب الرئيسية في الحياة السياسية المصرية.

يسجل اعلان خالد محيي الدين لموقفه هذا بالفعل سابقة في تاريخ الأحزاب المصرية منذ بدء التعددية عام 1976، عندما عادت بقرار السادات الشهير باقامة ثلاثة منابر كان من بينها منبر اليسار بزعامة خالد محيي الدين، والذي تحول فيما بعد إلى حزب التجمع. وعلى الرغم من تقديري الشخصي لهذا الموقف إلا أنني أعتقد أنه جاء متأخراً ليس كموقف من خالد محيي الدين ولكن كسلوك سياسي، ونمط تطور طبيعي في الحياة السياسية. فالملاحظ أن أحزاب المعارضة التي تتوجه بالنقد الدائم للحكومة ولنظام الدولة بأنه يمارس الحكم بأسلوب غير ديمقراطي بشكل كامل، هي الأحزاب ذاتها التي تفتقد في داخلها الممارسة الديمقراطية الحقيقية. فنجد أحد الأحزاب الرئيسية يعدل في نظامه الأساسي الذي كان يحدد مدة رئاسة الحزب بفترتين متتاليتين ليسمح بانتخاب رئيس الحزب دون حد أقصى، وأجد نفسي مضطراً لأن أضع علامة تعجب هن! ونجد حزباً آخر يفشل رئيسه في تخطي الانتخابات البرلمانية، فلا يكون منه إلا الاصرار على الاستمرار في رئاسة الحزب برغم فشله في أن يحوز ثقة القاعدة الشعبية، وأضع علامة تعجب أخرى! والغريب أن هذا السلوك يجد من أعضاء الأحزاب قدراً من التأييد. وتأتي التبريرات سريعة ومباغتة في الحديث عن القيادات التاريخية التي ينبغي الحفاظ عليها وعلى قيمتها. ومع تقديري الكامل لهذا المفهوم الذي هو مفهوم شرقي عربي، إلا أن القيادات التاريخية يمكن أن يكون مكانها استشارياً توجيهياً ولكن في اطار ديمقراطي صحيح وصحي يسمح بتجديد دماء الحياة السياسية بشكل دائم.

خالد محيي الدين الذي بلغ الثمانين ـ أطال الله عمره ـ والذي كانت له مواقف مشهودة عام 1954 أثناء أزمة مارس الشهيرة، والتي انحاز فيها للخيار الديمقراطي وقتها ضد رغبة الأغلبية من أعضاء مجلس قيادة الثورة، جاء اليوم ليسجل موقفاً آخر، قد يكون الوقت متأخراً أعواماً طويلة، ولكن على الأقل يبقى للحاج خالد ـ كما يطلق عليه أبناء دائرته الريفية ـ أنه أول رئيس حزب يتخلى عن الكرسي ـ حتى لو كان كرسياً حزبياً صغيراً ـ برغبته.

أحد الصحفيين المصريين توقف متعجباً عندما شاهد شاباً ألمانياً في منتصف الثلاثينات يتحدث في المؤتمر الأخير الذي عقد لمناصرة الشعب العراقي متسلحاً بالوثائق والأرقام والأسلوب العلمي في الطرح. كان سبب دهشة الصحفي صغر سن المتحدث، فتوجه إليه ليسأله «ألا تعتقد أن سنك صغيرة بعض الشيء على ماتقوم به»؟ لم يجد الشاب إلا أن يرد بسؤال وهو ينظر الى المتحدثين العرب حوله «ألا تعتقد أنت أنهم في عمر أكبر كثيراً على مايقومون به»؟!

[email protected]