خيزرانات هذا الزمان

TT

لم تكن من بنات الملوك، ولا من بنات السادة المترفين.. ولكن جمالها الفتّان، وشبابها الغض، وروعة عودها، وضعها يوما في طريق الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور، الذي ما ان رآها حتى قال: «ما احسبها الا من بنات الأمراء».

فقيل له: بل هي ليلى الجرشية، التي قال فيها بشار بن برد:

قد جُعل الأعداء ينتقصوننا

وتطمع فينا ألسن وعيون

الا انما ليلى عصا خيزرانة

اذا غمزوها بالأكف تلين

فقال ابو جعفر: «لم أر مثل حسنها، وجمال تكوينها مع حسن الزينة، وعُجب المشية، أمثل هذه الجارية تغدو صاحبة لبشار؟!.. فقيل له: لا والله يا امير المؤمنين.. انه ليتصدى لها كلما خرجت، وكانت تزجره حتى توعده ابوها بالقتل، ان هو تعرض لها!!.. ولكن بشارا لم يرعوي، وقال فيها ايضا:

ودعجاء المحاجر عن كسل

كأن حديثها ثمر الجنان

اذا قامت لمشيتها تثنّت

كأن عظامها من خيزران

فقال ابو جعفر المنصور: «ما اجدر بمثلها ان تكون زوجة ملك، ثم تساءل: بنت من هي؟!».

فقيل له: أبوها عطاء اليمني، تاجر عطور في شوارع بغداد!! ففكر ابو جعفر المنصور، ثم اخذ يخاطب من حوله حيث قال: «لا اظن ان أباها يضن بها على امير المؤمنين لو طلبها لتكون زوجة لولده المهدي؟!».

الاسم الجديد!!

الخيزران هو الاسم الجديد الذي اختاره ابو جعفر المنصور لـليلى بنت عطاء التي دخلت الى قصر الخلافة زوجة لولي العهد المهدي.. وبدأ التاريخ يفتح في سجله صفحة على كل سطر منها بصمة (الخيزران).

وفي الوقت الذي كان يتلهى فيه زوجها ولي العهد، اعطت هي عقلها كله لأبي جعفر.. لم يكن هناك حد لاعجابها بالخليفة العظيم، واسلوبه في سياسة الدولة الواسعة.. فعلى يديه تلقت اصول الحكم، وسارت على منهاجه في ممارسة القوة والسلطان، واعجب الخليفة بتلك المرأة الذكية، بسرعة بديهتها، برأيها السديد، وعينها النافذة، فكان لا يجد راحته الا في بيت ولده، حيث كان يستشيرها بالعديد من الامور.

كأنما كان ابو جعفر المنصور يعهد اليها، وليس الى ولده المهدي.. لم تنس الخيزران ذلك اليوم ابدا.. فما ان مات المنصور، حتى احست وكأن الملك قد افضى اليها هي، وليس الى زوجها الخليفة، حتى بات واضحا للناس ان مقادير الحكم تتحدد في مخدع الخيزران، فصار كل شيء بيدها، وتهامس الحاقدون على ملك العباسيين الواسع، وكيف اصبح في يد بنت عطاء العطار!!؟

ولكنها لم تعبأ، فزوجها يحبها الى درجة الجنون، وكثيرا ما كان يردد: «لا ادري ما كنت أفعل لولا الخيزران؟!».

.. وكانت تفضل ولدها موسى على ولدها الآخر هارون، لأنها مؤمنة بأنه سيغدو كالخاتم في يدها، مثلما كان ابوه.. ثم يموت الخاتم الكبير، ويفضي الامر الى الخاتم الصغير.. الى موسى الهادي..!!

حدث الانقلاب

في الشهور الأولى لحكم ولدها، بالغت الخيزران في الاستبداد بالامر دونه، وكأنما تريد ان تحجم دوره، وتثبت له اهميتها في ادارة دفة الامور.. استكان الخاتم في اصبع امه سبعة اشهر، ثم ضاق به الأمر فجأة.. وبدأ يتململ من موضعه في الاصبع الطموح.. دخلت عليه يوما في موكبها، مزهوة، معجبة بسلطانها على ولدها، وتحدثت اليه بلهجة الآمرة:

«طلبت اليك اكثر من مرة ان تجعل اخي الغطريف واليا لك على اليمن، فما وصلني منك ما يعزز امر خالك، ويكبت اعداءه!!».

«يا امي: لا يصلح الغطريف لولاية اليمن!!».

فاحتدت، وقالت لابنها:

«بئس ما تقول في خالك!! ماذا لو سمع الناس انك تقول ذلك في اخي، وانا من انا في ملكك.. اني اعرف بالرجال منك، فانظر في امره، ولا يكون قرارك الا بما فيه رضاي، ورضا خالك..» وانصرفت..!!

وبعد ايام يرسل امير المؤمنين الى والدته من يبلغها انه ولي الغطريف على اليمن، شريطة ان يطلق زوجته، ويتنازل عن كل امواله، ولا يدخل بغداد بعدها ابدا!!

فاشتد غضب الخيزران، اذ لم تكن تتصور ان امير المؤمنين يرسل لها من يبلغها بهذا الامر.. فأقسمت قائلة:

«لا والله لا يكون هذا ابدا، وانا الخيزران.. سأذهب اليه بنفسي اذا كان قد تمرد على البطن التي حملته!!» ولما ذهبت اليه اعرض عنها، ولم يجبها الى طلبها.. لكن اخوها الغطريف، الذي كان طامعا في خيرات اليمن، وجد نفسه مضطرا الى طلاق زوجته، والتنازل عن ماله، والسفر الى اليمن.. اما الخيزران فلم تستفد من الدرس، وحاولت مرة اخرى، ان تختبر ما تبقى لها من نفوذ في دولة كانت كلمتها فيها هي العليا.. فذهبت الى امير المؤمنين ولدها، حيث بادرته بالقول:

«يا موسى..» فرد عليها بجفاء: «بل قولي: يا امير المؤمنين».

فصاحت: «يا ويح البطن التي حملتك». فأجابها باقتضاب: «ما رجاؤك هذه المرة؟!».

قالت: «عبد الله بن مالك كان يتولى الشرطة لأبيك، ولك من بعده، فما دفعك الى عزله..؟!».

اجابها: «عزلته لاستعمالي اياه في بعض شؤون المملكة !!».. خرجت، تكاد الارض تميل بها من هول ما سمعت.

وفي صباح اليوم التالي جمع موسى الهادي كل قواده، وخاصته، وكبار رجال دولته.. وطرح عليهم سؤالا:

«أيها الناس: أيما خير؟!. أنا، او انتم؟!»

فقال له الفضل بن الربيع: «بل انت يا امير المؤمنين..».

فطرح سؤالا آخر: «فأيما خير؟! أمي او امهاتكم؟!»

فأجابه الجميع: «بل أمك يا امير المؤمنين..»

.. فقال لهم: «فأيكم يحب ان يتحدث الرجال بخبر امه، فيقولوا، فعلت ام فلان، وصنعت ام فلان.. وقالت ام فلان؟!».

فأجابوه: «ما احد منا يحب ذلك يا امير المؤمنين!!»

فرد عليهم بعصبية وحدة:

فما بال الرجال يأتون امي، فيتحدثون بحديثها، ويتقدمون اليها بشكاواهم؟!! أقسم بالله لو فعلتم ذلك بعد الساعة، لوطئت اعلاكم بقدمي!!».

إسدال الستار!!

انهارت آمال الام الطموح تماما.. وغلبت عليها طبيعة المرأة، فآثرت الانزواء في احد قصورها، بعيدا عن الحياة العامة.. ويتناقض المؤرخون في ذكر محاولة الأم التخلص من ابنها، ومحاولة الابن القضاء على امه.. وكذلك يتحدث المؤرخون عن ارز مسموم ارسل به موسى الهادي الى امه.. وعن دجاجة مسمومة ارسلتها الام الى ولدها..

كيفما كانت حقيقة هذه المحاولات البشعة، فقد مات موسى الهادي بعد اشهر من صدامه العنيف مع امه، وعاشت الخيزران لترى ابنها الثاني هارون الرشيد يصل الى اقصى ما وصل اليه خليفة من نفوذ وسلطان، ولم تجد الخيزران ما قد يحفزها على التدخل في شؤون ادارة دفة امور الخلافة، فهارون كان نمطا آخر من الخلفاء، حيث جعل منها تكتفي بالفخر والاعتزاز كونها اما له..

وظلت تعيش على ذكرى امجادها السابقة، حتى رقدت رقدتها الاخيرة، يرن في سمعها ما كانت تطرب له وهي في اوج مجدها، يرن في سمعها قول شاعر كان ينافقها، في قصيدة طويلة مطلعها:

«يا خيزران هناك ثم هناك... ان العباد يسوسهم إبناك»

.. رغم صراعها الطويل مع ابنها موسى الهادي، لكنها لم تذكر به، مثلما يذكرها المؤرخون باسم «ام الرشيد»، وبعضهم ينعت الرشيد بلقب «ابن الخيزران»..

* لعل ما دفع بي لكتابة مثل هذا الموضوع هو ان المرأة في ايامنا هذه تكاد ان تكون في كثير من الدول هي صاحبة القرار السياسي الاول، وصار الناس يلجأون اليها لقضاء حوائجهم، لدرجة ان دولة عظمى مثل اميركا، قد ادركت خطورة دور المرأة في القرار السياسي فعينت عددا من النساء كسفيرات لها في تلك الدول آخذة بعين الاعتبار ان السفراء الرجال، لا يستطيعون ـ بحكم التقاليد ـ ان يصلوا الى معرفة القرارات السياسية النسائية، بيد ان الابواب مفتوحة امام السفيرات.

من هنا نجد ان السياسة الاميركية آخذة في التخبط وعدم الاستقرار، مما جعل الكثير من المناطق تشوبها حالات من التوتر.. لأن (خيزرانات هذا الزمن) اخذن يكثرن من دس انوفهن فيما لا ناقة لهن به ولا جمل..!!