اختطاف الديموقراطية على الطريقة الأميركية

TT

قبل اسبوع من إعلان كولن باول رسميا عن «مبادرة شراكة بين الولايات المتحدة و«الشرق الأوسط»، قدم ريتشارد هاس، مدير التخطيط السياسي بوزارة الخارجية (وهو يهودي ذو ميول صهيونية!) شرحا موسعا عن اهمية الدفع باتجاه الديموقراطية في العالمين العربي والاسلامي، وذلك في محاضرة القاها أمام مجلس العلاقات الخارجية. ومضمون المحاضرة يشكل المرجع النظري لمبادرة باول!

بدأ ريتشارد هاس محاضرته بالقول: «يسرني ويشرفني ان اكون هنا مساء هذا اليوم، وان يكون فؤاد عجمي هو الذي قدمني لأمر جيد فعلا. فؤاد انسان حكيم وخبير في صناعة الكلام، اذ انه يوضح في كتبه ومقالاته وتعليقاته ما يبدو غير شفاف في كثير من الأحيان».

وفؤاد عجمي هذا، الذي قدم هاس، هو أستاذ جامعي عربي، يعبر في كتابته عن كره لأصله، ولا ينكر محبته لاسرائيل! كما انه مستضاف دائم في محطات التفلزة الأميركية ومراكز البحوث والدراسات، وتجد استشاراته قبولا واسعا عندهم. لكن هاس أذكى من ان يتبنى لغة عجمي في تسفيل الذات العربية!

فالسيد هاس ينطلق من موقعه الرسمي كموظف دبلوماسي يدير التخطيط السياسي الاستراتيجي بوزارة الخارجية!

هو يعتقد انه اهتدى الى حل سحري لأزمة المجتمعات العربية الاسلامية، بالقول «كما علمتنا التجارب القاسية، فان مثل هذه المجتمعات (العربية الاسلامية) تفرخ الارهابين والمتطرفين الذين يستهدفون الولايات المتحدة لتأييدها للنظم التي تحكمهم».. وان على أميركا ان تربط نفسها بتطلعات الناس في العالم العربي، على حد تعبير اليزابيث تشيني (ابنة ديك تشيني) نائبة مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدني!

اذن، ها هي أميركا تعثر لنا على اسطوانة جديدة لتسويق أغنية الديموقراطية لأمة قاصرة وجاهلة يجب تعليمها وتدريبها كيف تحكم نفسها وكيف تضع المناهج والاساليب التربوية لتعليم أولادها وبناتها، كيف تحب أميركا!

هاس يبدأ محاضرته بالوقاحة الأميركية المعهودة، عندما يؤكد على ان الديموقراطية «كانت دائما مسألة مركزية بالنسبة للسياسة الخارجية الأميركية»، وانه كما قال وزيره كولن باول «مسؤوليتنا كمواطني أعظم ديموقراطية في العالم ان نضع بلدنا وقوته في خدمة الحرية حول العالم!!».

والرهان على الديموقراطية، حسب رؤية السيد هاس، له اسباب عملية «فبكل بساطة سوف نزدهر اكثر كشعب وكدولة في عالم من الديموقراطيات بدلا من عالم من الأنظمة الاستبدادية والفوضوية. فالعالم الديموقراطي هو عالم مسالم اكثر».. وهو يذكر في ذلك كيف جلبت الديموقراطية السلام والاستقرار والتعاون لأوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، وكذلك لأميركا اللاتينية: «عندما تم في ليما، عاصمة البيرو، في نفس يوم هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، التوقيع على شرعة الديموقراطية التي اعدتها منظمة الدول الأميركية (اللاتينية) حيث تعهدت كل دولة، باستثناء كوبا وحدها، تعزيز الديموقراطية في الداخل وتقديم المساعدة لجيرانها اذا ما تعرضت فيها الديموقراطية الى تهديد أو تداعيات».

بعد ذلك يتعرض الى التجارب الديموقراطية في العالم الاسلامي، مثل أفغانستان والجزائر وبنغلاديش واندونيسيا والمغرب وتركيا واليمن وغيرها من الدول ذات الاكثرية الاسلامية والتي هي إما في طور ديموقراطيات ناضجة او ديموقراطيات مراقبة (فوقيا). ويستخلص من ذلك ان هناك تطورا ملحوظا نحو الديموقراطية في كثير من المجتمعات الاسلامية، ويدل ذلك عنده، على انَّ لا تعارض بين الديموقراطية والاسلام و«ان حوالي 40 في المائة من المسلمين يعيشون كأقليات بما في ذلك عدة ملايين هنا (في أميركا) وهم جزء هام ونشيط من الديموقراطية الأميركية. ففي بلدان مثل الهند وفرنسا وجنوب افريقيا يدحض المسلمون الاشاعة الكاذبة بأن طريقة الحياة الاسلامية لا تتلاءم مع المشاركة الديموقراطية».. طبعا يسكت عن ان هذا الوضع الأقلوي للمسلمين عرّضهم للتفرقة العنصرية في فرنسا وأميركا وللاضطهاد والقمع والاحتلال والمجازر وحروب التطهير في الهند والبلقان وروسيا!

وعندما يتوقف عند المحرقة الصهيونية النازية للفلسطينيين يكرر الوقاحة الممجوجة للسياسة الأميركية في تسفيه مأساة الفلسطينيين واختزال قضيتهم المصيرية، في المطالبة، كما يريد شارون، باصلاح السلطة الوطنية و«مساعدة الفلسطينيين في ايجاد اطار عمل دستوري جديد وديموقراطية فعالة»، مع الاشارة اياها الى رؤية رئيسه بوش عن «دولة فلسطينية»، تلك الرؤية الضبابية التي لا تعدو كونها اكثر من بيع سمك للعرب وهو في اعماق البحر!

وكما وظف كولن باول «تقرير التنمية الانسانية العربية» في مبادرته عن الشراكة مع الشرق الأوسط، وظفه قبله ريتشارد هاس في محاضرته، لتبيان مدى قتامة الاوضاع العربية، بالاضافة الى تقرير مؤسسة فريدوم هاوس عن «وضع الحرية 2001 ـ 2002» في العالم الاسلامي، وفي قلبه العربي على وجه الخصوص. فيذكر بهذا الخصوص حقائق سياسية واقتصادية موضوعية توضح حجم «الفجوة الديموقراطية» الهائلة بين العالم الاسلامي وباقي أنحاء العالم.

منها «ان واحدة فقط من أصل كل أربع دول ذات أكثرية اسلامية لديها حكومات منتخبة بطريقة ديموقراطية».. وان «عدد البلدان الحرة، حسب معايير مؤسسة فريدوم هاوس، ازداد حول العالم بمعدل ستة وثلاثين بلدا تقريبا خلال السنوات العشرين الماضية، لكن لم يكن بين تلك البلدان أي بلد ذي أكثرية اسلامية».. لموازنة التقرير الغربي يستند الى «تقرير التنمية الانسانية العربية» الذي حرره نحو ثلاثين باحثا عربيا برعاية برنامج الأمم المتحدة للتنمية والصندوق العربي للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وهو التقرير «الذي يصور عالما عربيا لا يساير الركب العالمي» في الحريات الفردية والعامة ومكانة المرأة والتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وحيث تزايد أعداد الشباب يجلب معه ارتفاع أعداد العاطلين، فنسبة البطالة تبلغ اكثر من 40 فى المائة في بعض المناطق، مما ينذر بظروف اجتماعية قابلة للانفجار... وهنا مكمن الخوف الأميركي من ان تنفجر «طنجرة الضغط» التي تكبس هذه القوة العربية الشابة المرشحة لأن تكون ثالث أكبر كتلة شبابية تتكلم لغة واحدة في العالم، مما يشكل خطرا على المصالح الأميركية في المنطقة العربية، حسب تحليل السيد هاس!

لذلك يعتقد هاس ان تجريع الديموقراطية للعرب سيجعل منهم كائنات هادئة ولطيفة تتفهم المصالح الأميركية! وان ذلك سيساعد أميركا على توفير العون في حربها على «الارهاب!».

ولكنه يحذر من ان على الأميركيين: «قبل أي شيء آخر، على غرار الاطباء، احترام قسم أبوقراط، وعدم التسبب بالايذاء»، أي ان يجري تعليم العرب الديموقراطية بهدوء وروية وعدم الحماس «فالحماس غير المنضبط لتحسين العالم قد يجعله أسوأ».

وعند السؤال لماذا أتت هذه المكرمة الأميركية السامية الآن؟! يجيب هاس بأنه يعرف ان الناس ستتساءل عن التوقيت؟! فهو يدرك انه سيقال ان الهدف من المشروع الأميركي الجديد هو مجرد ذريعة امبريالية وقحة لشن الحرب المبيتة على العراق واسقاط النظام القائم بحجة القضاء على استبداد صدام وتقديم الديموقراطية للشعب العراقي على طبق من الذهب: «وسوف يذهب البعض الى حد القول ان الحديث الأميركي حول الديموقراطية يهدف الى قلب الانظمة في الشرق الأوسط، او سوف يستخدم كعملية تأديبية ضد الذين ينظر اليهم كأعداء لأميركا».

انه ينفي مثل هذه التحليلات التي تشير الى أجندة خفية وراء المشروع ويصر على ان الديموقراطية جيدة للآخرين كما هي جيدة لأميركا!

ماذا لو أدت الديموقراطية في العالم الاسلامي الى وصول الاحزاب الاسلامية الى الحكم؟! أميركا، حسب تحليل هاس، تدرك ذلك، وتفهم ان تداول الاحزاب الاسلامية للسلطة سيكون مؤقتا، لأن نجاحها ليس بسبب ثقة الناس فيها وانما لأنها «المعارضة المنظمة الوحيدة». وهذه النظرة الأميركية الواثقة تفترض ضمنا ان الاحزاب الوطنية الاخرى (قومية، يسارية، ليبرالية) لن تكون معادية لأميركا، ثم ان الاحزاب الاسلامية يمكن ان تكون متفهمة للسياسة الأميركية ومتعاونة معها، بدليل موقف حزب العدالة والتنمية المتمسك بحلف الناتو والمتفهم للحرب الاميركية على العراق!

ولكن أية ديموقراطية تقترحها الادارة الأميركية على الشعوب العربية؟! السيد ريتشارد هاس يبدو مرنا جدا في عروضه، فهو يعرض على الزبائن عدة خيارات ديموقراطية لا تزعج الحكام العرب او قد تجعلهم يتمردون على الوصاية الأميركية!

فيمكن للعرب ان يختاروا الملكية الدستورية او الجمهورية الفدرالية او النظام البرلماني بألوانه المتعددة!

فالوصي الأميركي على التجارب الديموقراطية المقترحة يتفهم ان «الديموقراطية تحتاج الى وقت»، وان الانظمة التعليمية تحتاج الى تغيرات جذرية والوسائل الاعلامية تحتاج الى رفع الرقابة الرسمية، والنساء يحتجن الى نيل حقوقهن الديموقراطية الاساسية»، فالمجتمعات التي يحكمها الرجال هي ايضا مجتمعات يلعب فيها الرجال دورا تابعا لدور رجال آخرين!

ويحذر هاس في محاضرته من محاولة فرض الديموقراطية من الخارج لأن نتيجة ذلك الفرض سوف تكون غير ديموقراطية وغير قابلة للاستدامة!

ان القراءة البريئة تجد في محاضرة مدير التخطيط السياسي بوزارة الخارجية حقائق بينة ونوايا طيبة، لكن القراءة السياسية الخبيثة، والضرورية، تكشف ان محاضرة المخطط السياسي ثم مبادرة الوزير، كولن باول، لا تخرج عن كونها وصاية على العرب وتسويقا لـ«امبريالية ديموقراطية!»، فهي لا تستهدف، في جوهرها ومقاصدها واغراضها، مد العون للنهوض بالشعوب العربية من اوضاعها السياسية والاقتصادية المتردية، وانما مجرد ذريعة كولونيالية جديدة/قديمة للضغط على الانظمة العربية وتهديدها بشعوبها من أجل اخضاعها لاستراتيجيتها الامبريالية وقبولها بالشالوم الاسرائيلي، لذلك لا يمكن للعرب ان يرجوا خيرا من أميركا التي لن تجد من يستجيب لها الا الجاهزين للتقلب على كل الاوضاع!