فلاسفة.. ورجعيون

TT

لا تحتاج الى دليل خفي وعميق لتثبت ان «الانتلجنسيا» الاوروبية تتوجه بسرعة ومنذ سنوات نحو اليمين، ومستعدة لتصوت، وتُنظِّر لكل من يرفع شعار مقاومة الهجرة والجريمة، لكن فرنسا تحتاج دوما الى ادلة مفصلة وقد جاءها الدليل هذا الخريف على شكل كتاب من 94 صفحة لاكاديمي شبه مجهول يتهم النخب الفرنسية المثقفة والاكاديمية تحديدا بالانجراف نحو التيارات اليمينية المحافظة، بل ويطلق عليهم لقب «الرجعيون الجدد» ليذكر تلقائيا بالموجة الفكرية التي حدثت في اعقاب مايو (ايار) 1968 وانتجت لقب «الفلاسفة الجدد» فهل تحول الفلاسفة الجدد الذين كانوا ثوريين قبل ثلاث حقب الى رجعيين جدد..؟

«دانييل ليندنبيرج» مؤلف الكتيب الذي هز النخب الفرنسية يؤكد ظاهرة الرجعيين الجدد في الحياة الفرنسية ويقدم ادلة كثيرة على انتشارها، وقد اختار عنوانه بعناية «دعوة للنظام» ليثبت ان المثقفين الفرنسيين صاروا اقرب الى السلطة منهم الى الشعب.

وتهمة من هذا النوع في فرنسا التي تنتج لاوروبا موضاتها الفكرية، لا يمكن ان تمر بسهولة، لذا تبارى «الرجعيون الجدد» في الرد، وصار ليندنبيرج نجماً بعد اقل من ثلاثة أشهر على صدور كتابه في اكتوبر (تشرين الاول) الماضي ولا غرابة في ذلك، فالمناخ الفرنسي مولع بصناعة نجوم الفكر أكثر من ولعه بصناعة نجوم الفن، فهناك لا ينجح السياسي ولا الفنان ان لم يقدم نفسه كمثقف متعمق ومفكر لوذعي وفيلسوف صميدعي، ولا تهم بعدها رجعيته أو تقدميته.

واحد من هذه الردود على كتاب ليندنبيرج نشرته، مجلة «الاكسبريس» قبل اعياد الميلاد، وفيه قال «الرجعيون الفرنسيون» عن منتقدهم ما لم يقله مالك في الخمر، فهو من وجهة نظرهم باحث مائع وغير دقيق ونظرياته تدعو للسخرية، وعمله اشبه ما يكون بصيد السحرة في القرون الوسطى.

والصفة الاخيرة من عصر محاكم التفتيش الذي كانت سلطاته السياسية والدينية تشجع الناس على البحث عن ضحايا لاحراقهم، وكانت تهمة ممارسة السحر كافية من دون اي دليل لقيادة المتهم الى المحرقة، ومنذ تلك الايام أولع المثقفون بمصطلح Witch hunt وصاروا يطلقونه على كل عملية تصيد للاخطاء والنواقص والسلبيات.

وفي فرنسا حيث المثقف اليميني كاهن معبد، والمثقف اليساري قائد جماهيري، لا تظل تلك المعارك الفكرية في اطار النخب، بل سرعان ما تنتقل الى كل بيت، خصوصا عند أمة مأزومة كانت تظن نفسها الاكثر ليبرالية في العالم، الى ان اكتشفت في الانتخابات الرئاسية التمهيدية قبل عدة أشهر ان نسبة لا بأس بها من المجتمع الفرنسي مستعدة للتصويت لليمين المتطرف الذي يعادي معظم التوجهات الليبرالية، ولا يمانع في تطبيق اسوأ انواع السياسات التوليتارية.

وليس هذا التوجه غريبا على الانظمة الديمقراطية، فالفيلسوفة الالمانية «حنة آرندت» سبقت الجميع الى اثبات ان التوليتارية تتجذر في الديمقراطية، وليست غريبة أو طارئة عليها لأن التوليتارية تجد أصلها في الحداثة الاوروبية مرة في قوانين التاريخ (البلشفية) وأخرى في قوانين الطبيعة (النازية). والتوليتارية تجمعها مع الاشتراكيين الديمقراطيين على الصعيد الفكري عدة نقاط اساسية، منها الميل الى تكسير النظام الطبقي وتقديس العلموية وتشجيع الكوزمبوليتانية التي فرضت نفسها بقوة بعد عصر الثورة الصناعية.

ان التحولات الفرنسية نحو اليمين المحافظ التي رصدها دانييل ليندنبيرج بدقة في الاوساط الاكاديمية لم تأت من فراغ وليست غريبة عن المسرح النظري الفرنسي ايضا، فقبله شخَّص بعضها «ريمون آرون» في كتاب «الديمقراطية والتوليتارية» ولعل الاوضح والاصرح في نقد هذا التيار هو «أدورنو» الذي وصل الى نتيجة متشائمة عن دور الديمقراطيين الاشتراكيين حين قال: انه بقدر ما يتم تحقيق العدالة بقدر ما تنعدم فرص الحرية.

ولا شك ان الانزياح الفكري من موقع لآخر لا يحصل بين يوم وليلة، فهل حكم الاشتراكيون الفرنسيون كل هذا الوقت ليرسخوا هذا الميل نحو اليمين ويخلقوا رجعية فرنسية جديدة تنسف المنجزات الليبرالية للجمهورية..؟

ربما كان الزملاء الذين يقيمون في فرنسا اقدر بحكم المعايشة والمتابعة اليومية على الاجابة عن هذا السؤال، وبينهم نخبة محترمة اشتغالها الاساسي في الحقل الفكري، كهاشم صالح وأحمد الشيخ وجورج طرابيشي وعلاء طاهر مؤلف احد الكتب عن مدرسة فرانكفورت التي عنيت اكثر من غيرها، خصوصا على يد «ماكس هورخيمر» في العمل على فض التشابك القائم بين الديمقراطية والتوليتارية.

ان مأثرة ليندنبيرج رغم انتقادات معارضيه هي تحريك البحيرة الفكرية الفرنسية الراكدة التي نامت طويلا ولم تستيقظ الا مؤخرا لتكتشف ان التحول من الديمقراطية الى التوليتارية، ومن الفكر الليبرالي الى الرجعي لا يحدث في اميركا وحدها انما ايضا وبنسبة اقل في قلب عاصمة النور.