حان الوقت لأن نضع القرن التاسع عشر خلف ظهورنا

TT

الوقت منتصف ليل الأربعاء، وربما صباح الثلاثاء، يعتمد الأمر على مكان وجود المرء في الكرة الأرضية. والمكان هو واشنطن العاصمة، يوم 21 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي. كنت استعد تلك الليلة لكتابة ثالث وآخر بحث طلب مني ضمن البرنامج الدراسي، الذي يشرف عليه البروفيسور فؤاد عجي في كلية نيتز للدراسات الدولية العليا بجامعة جون هوبكنز، وموضوعه الفكر السياسي العربي.

كان موضوع بحثي هو محاولة التعرف على جذور التقييم القاتم للوضع العربي الحالي، وفقا لتقرير عام 2002 حول التنمية البشرية في العالم العربي. فبعد قراءتي للتقرير (الذي أنصح كل مثقف عربي بالاطلاع عليه لمعرفة موقع عالمنا العربي من العالم اليوم)، وبعد قضائي لبضع ساعات حددت فيها استنتاجاتي بهذا الخصوص، اتجهت نحو قاعة الجلوس للتحدث مع أحد رفاقي في السكن، واخذ قسط من الراحة قبل أن أبدأ في كتابة البحث المطلوب.

كانت احدى قنوات التلفزيون تواصل بث الأخبار، كما اعتدنا في السكن ـ حيث كنت أعيش مع اثنين من دارسي العلاقات الدولية، حين فوجئنا بعبارة «خبر عاجل» تظهر على شاشة التلفزيون. وقد بادرت على عجل الى غلق الجهاز، على اعتبار ان متابعة الأخبار طوال الوقت قد تنهك المرء أحيانا وتصيبه بالاحباط، لكن الصمت المطبق جعلني أتساءل: ترى ما الذي حدث؟

مر في خاطري تلك اللحظة ان الوقت صباحا في الشرق الاوسط. قفزت الى ذهني فجأة حقيقة انها «ساعة الازدحام» هناك، وحدست بما فكرت في ما سيكون قد وقع فعلا. لقد شعرت في اعماقي بان تفجيرا انتحاريا قد حدث في اسرائيل.

قررت متابعة بث الاخبار في التلفزيون، ووجدت نفسي أمام ما حدث. لقد كنت محقا، فأمامي مشهد مرعب. موظفو الاسعاف في حالة ارتباك، صراخ وعويل وأصوات تئن بألم، وحافلة تسبب انفجار في تفحمها. اعتقدت ان ما تناقلته الأنباء لا يمكن تصديقه، لكنني كنت مخطئا. ولسوء الطالع، بات المشهد مألوفا. لقد تم تفجير حافلة مزدحمة بالركاب في أحد شوارع القدس. التفاصيل متباينة وفقا للتقارير الأولية: من «قتيلين وعدد من الجرحى» الى «ستة قتلى، وعشرات الجرحى»، ثم «ثمانية قتلى، وثمانية إصاباتهم خطيرة وما يزيد عن أربعين مصابا تم نقلهم للمستشفيات»، وحتى «قتل ما لا يقل عن عشرة».

لم تكن الأرقام هي ما شغلني، بل ان حقيقة شعوري من الاعماق ان تفجيرا حدث في الجانب الأخر من الكرة الأرضية، هو ما أزعجتني. فما الخبر العاجل الذي كان علي توقعه في تلك الساعة؟

هذه التفجيرات الانتحارية ـ أو ما يمكنني وصفه بالتفجيرات القاتلة ـ أصبحت على ما يبدو حقيقة معيشة في اسرائيل المجاورة، وبات العديد منا يتقبلون واقع الحال سلبا أو ايجابا. ففي العالم العربي، ناهيك من الشارع الفلسطيني، يندر الحديث حول المشروعية الأخلاقية (أو عدمها) لهذه الهجمات التي تستهدف المدنيين، وحول فائدتها (أو عدمها) للقضية الفلسطينية. وبدلا من توفر مثل هذا الحوار الجاد والمعلن حول هذه المسألة وغيرها في العالم العربي، هناك فقط حالة صمت تذكرنا بالموت والتلاشي ـ وهي الحالة التي يبدو ان المجتمع العربي يعيشها اليوم (ويبدو انه ظل يعاني منها لبعض الوقت).

البعض، على ما يبدو، لم يعد يأبه بمعنى حياة البشر ـ حتى ولو كان فردا واحدا ـ سواء كان الفرد ذاك عربيا أو مسلما أو يهوديا أو مسيحيا.

الأمر الذي يدفعني الى التساؤل عن الهدف من هذه التفجيرات؟ هل هو النضال من أجل الدولة الفلسطينية؟ هل هو السعي للحرية بدلا من العسف والاحتلال؟ هل هو طلب التحرر من العنف وارهاب الدولة؟ هل هو رغبة وولع بالتحرر من الخوف؟ وهل هذه هي الغايات التي نسعى لتحقيقها؟ وأين هي أصوات الاعتدال في مجتمعاتنا؟

فهذه الأساليب التي اختارها رجال فلسطينيون (ونساء أيضا) ومؤيدوهم، لن تقودهم، بالتأكيد الى تحقيق تلك الغايات التي يزعمون انهم يسعون اليها. ويغفل الحقيقة من يحاول، في أوساطنا، القول ان هذه الأساليب ستؤدي الى تحقيق تطلعات الفلسطينيين نحو الحرية والاستقلال.

واقع الحال يشير الى ان كل تفجير انتحاري آخر يحدث في اسرائيل يبعد الشعب الفلسطيني مسافة أخرى عن طموحاته. وها هي الحقائق تتحدث عن نفسها. فخلال العامين الماضيين، تراجع الرأي العام الاسرائيلي عن موقفه الذي كان الى حد ما يحبذ السلام مع الفلسطينيين، وأخذ الاسرائيليون يتبنون موقفا متشددا يميل الى الجناح اليميني المتطرف، بينما بات حزب العمل، الذي حظي ذات يوم بشعبية واسعة في اسرائيل، يلهث اليوم خلف الليكود الذي يتفوق عليه بهامش تأييد واسع للغاية.

ومع اقتراب الانتخابات الاسرائيلية من موعدها، بدا مستقبل جميع الفلسطينيين معلقا بموقف الرأي العام الاسرائيلي. ولكن يمكن للفلسطينيين، اذا ارادوا، التأثير الى حد كبير في مزاج الشعب الاسرائيلي بطريقة تخدم قضيتهم. ولا بد ان يقرر المعتدلون القيام بذلك بأنفسهم.

على ان الأمر لا يتعلق فقط بالرأي العام الاسرائيلي وبنتيجة الانتخابات الاسرائيلية. فالعالم بأسره يترقب موقفنا، نحن العرب، هذه الأيام ـ وعلى وجه الخصوص منذ الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) عام 2001. وهذا أمر يمكنني تأكيده لأنني ألمسه كل يوم داخل قاعات الدرس وخارجها، في شاشات التلفزيون الأميركية أو في الصحف العالمية ـ وبكل اللغات التي أستطيع قراءتها، ماعدا اللغة العربية.

يبدو ان دعم المجتمع الدولي للشعب الفلسطيني بات يتهاوى مع اتجاه النضال نحو اشكال لا يقبلها غالبية البشر. فالدولة الفلسطينية مسألة مقدرة كما يشير البعض. وهي هناك في مكان ما في التاريخ. انها هناك فوق الطاولة، وعلى الفلسطينيين والعرب أن ينتهزوا الفرصة. فحتى شارون يتقبل حتمية اقامة دولة فلسطينية، رغم مظاهر النقد والضغوط التي يتعرض لها من بعض أعضاء حزبه.

موعد قيام الدولة الفلسطينية مرتبط بخيارنا نحن العرب. وهي هناك حيث يمكن لعناصر من المجتمعات العربية والزعماء العرب أن يختاروا بحرية ما يريدونه بحق. أما كيفية تحقيق الهدف، فتلك مسألة أخرى.

يكفينا ما نحن فيه، وعلينا اختيار نهج السلام، ألا نتسامح بعد الآن مع نهج العنف. فالعنف لن يؤدي سوى الى مزيد من الألم ومزيد من المعاناة ومزيد من الدمار، الذي لن يصيب فقط الاسرائيليين بل سيلحق بنا أيضا.

السلام هو النهج الوحيد إذا ما أردنا تأسيس دولة فلسطين. وعلينا ألا نقبل بعد اليوم أساليب الانتقام، التي يستخدمها خصمنا الذي نمقته ويضطهدنا، باعتبارها سبيلنا لتحقيق حلم فلسطين لأننا اذا ما فعلنا ذلك سنكون قد قللنا من شأن أسمى معاني النضال من أجل الدولة الفلسطينية.

اننا الآن نعيش في القرن الواحد والعشرين، وعلينا، نحن العرب، ادراك أن الوقت قد حان من أجل ترك القرن التاسع عشر خلف ظهورنا.

* كاتب أردني